الابتكار الرقمي في العالم العربي بين التحولات البنيوية والفرص غير المكتملة

...
التاريخ: 10 - 05 - 2025

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

يدخلُ العالمُ العربيُّ مرحلةً جديدةً من التحوُّلِ الرقميِّ، حيث تتشابكُ التكنولوجيا مع البنيةِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ في مشهدٍ يعيدُ رسمَ موازينِ القوةِ والتنميةِ في المنطقةِ. الابتكارُ الرقميُّ أصبحَ مسألةً تتعلقُ بالسيادةِ الاقتصاديةِ، والمكانةِ الجيوسياسيةِ، وإعادةِ هندسةِ المجتمعاتِ من خلالِ اقتصادِ المعرفةِ. هذا التحوُّلُ، رغمَ زخمِهِ الظاهرِ، لا يزالُ محكومًا بتحدياتٍ هيكليةٍ تتطلبُ مقاربةً استراتيجيةً أكثرَ تعقيدًا من مجردِ تبني الحلولِ التقنيةِ المتاحةِ.

الاقتصادُ الرقميُّ كبنيةٍ تحتيةٍ جديدةٍ للقوةِ والنفوذِ

في المشهدِ العالميِّ، أضحى الاقتصادُ الرقميُّ مقياسًا لمراكزِ القوةِ الجديدةِ، إذ لم يعدِ النفوذُ محصورًا في امتلاكِ المواردِ التقليديةِ، بل باتَ مرهونًا بقدرةِ الدولِ على بناءِ أنظمةٍ رقميةٍ قادرةٍ على المنافسةِ والتكيُّفِ مع الاقتصادِ العالميِّ المعتمدِ على البياناتِ. وقد شهدَ العالمُ العربيُّ طفرةً في الاستثماراتِ الرقميةِ، مدفوعةً بتوسعِ شبكاتِ الإنترنتِ، وانتشارِ الهواتفِ الذكيةِ، وتزايدِ أعدادِ الشبابِ المتصلينَ رقميًّا، وليمنحَ الشركاتِ الناشئةَ بيئةً خصبةً لتطويرِ حلولٍ تكنولوجيةٍ جديدةٍ.

مع ذلكَ، يبقى السؤالُ الأهمُّ: هل هذه الطفرةُ يمكنُ أن تُترجمَ إلى تحوُّلٍ بنيويٍّ حقيقيٍّ في الاقتصاداتِ العربيةِ، أم أنها مجردُ موجةٍ استهلاكيةٍ مدفوعةٍ بالتكنولوجيا دونَ تأثيرٍ جوهريٍّ على هيكلةِ الإنتاجِ والثروةِ؟

إن الاقتصاداتِ التي تعيدُ تعريفَ علاقاتِها مع التكنولوجيا بشكلٍ استراتيجيٍّ، مثلَ الصينِ والولاياتِ المتحدةِ، لا تكتفي بتبني الابتكاراتِ، بل تؤسسُ أنظمةً رقميةً متكاملةً تستندُ إلى السيادةِ التكنولوجيةِ، والتحكمِ في تدفقاتِ البياناتِ، وامتلاكِ المنصاتِ الرقميةِ التي تشكِّلُ ركيزةَ الاقتصادِ الجديدِ. ومن هنا، يتضحُ أن الرهانَ في العالمِ العربيِّ لا يجبُ أن يكونَ على مجردِ استهلاكِ التكنولوجيا، بل على خلقِ بيئةٍ قادرةٍ على إنتاجها وتصديرِها، وهو ما يتطلبُ رؤيةً اقتصاديةً تتجاوزُ النموذجَ التقليديَّ القائمَ على استيرادِ الحلولِ الرقميةِ دونَ تطويرِ بنيةٍ تحتيةٍ معرفيةٍ محليةٍ.

الابتكارُ الرقميُّ بينَ الديناميكياتِ الاقتصاديةِ والتغيراتِ الجيوسياسيةِ

في سياقٍ عالميٍّ يتسمُ بتسارعِ التحولاتِ الرقميةِ، تتبلورُ قوىً جديدةٌ تعيدُ تشكيلَ المشهدِ الاقتصاديِّ والسياسيِّ. التكنولوجيا لم تعدْ أداةً حياديةً، بل تحوَّلتْ إلى سلاحٍ استراتيجيٍّ تستخدمُهُ الدولُ لتعزيزِ نفوذِها. القوى الكبرى، مثلَ الولاياتِ المتحدةِ والصينِ، دخلتْ في سباقِ الهيمنةِ على الفضاءِ الرقميِّ، حيث أصبحتْ منصاتُ الذكاءِ الاصطناعيِّ، وسلاسلُ التوريدِ الرقميةِ، والسيطرةُ على البياناتِ الوطنيةِ، جزءًا من استراتيجيةِ الأمنِ القوميِّ.

في العالمِ العربيِّ، لا تزالُ غالبيةُ الابتكاراتِ الرقميةِ مرتبطةً بالقطاعاتِ الخدميةِ مثلَ التجارةِ الإلكترونيةِ، والخدماتِ الماليةِ، والصحةِ، والتعليمِ، وهي مجالاتٌ أساسيةٌ، لكنها تفتقرُ إلى الأبعادِ الاستراتيجيةِ التي يمكنُ أن تجعلَ المنطقةَ فاعلًا رقميًّا حقيقيًّا على الساحةِ العالميةِ. إن التحديَ الجوهريَّ يكمنُ في توطينِ التكنولوجيا، بحيث لا يكونُ الاقتصادُ الرقميُّ العربيُّ تابعًا للمنصاتِ الغربيةِ أو الآسيويةِ، بل قادرًا على إنتاجِ نماذجِ أعمالٍ جديدةٍ تتلاءمُ مع خصوصيةِ المنطقةِ وتقدمُ حلولًا عالميةً.

تحدياتُ النموذجِ الاقتصاديِّ الجديدِ

رغمَ الحراكِ الملحوظِ في رقمنةِ الاقتصاداتِ العربيةِ، إلا أن التحدياتِ البنيويةَ لا تزالُ تشكِّلُ عائقًا أمامَ استدامةِ هذا التحولِ. الفجوةُ الرقميةُ بينَ الحواضرِ الكبرى والمناطقِ الريفيةِ لا تزالُ قائمةً، مما يحدُّ من فرصِ الإدماجِ الشاملِ في الاقتصادِ الرقميِّ. كما أن الإطارَ التنظيميَّ في العديدِ من الدولِ العربيةِ لم يتطورْ بالشكلِ الكافي لمواكبةِ السرعةِ الفائقةِ التي تتحركُ بها التكنولوجيا، حيث لا تزالُ بعضُ التشريعاتِ معطَّلةً أو غيرَ مهيأةٍ لاستيعابِ متطلباتِ الثورةِ الرقميةِ.

أحدُ التحدياتِ المركزيةِ هو نقصُ المهاراتِ المتخصصةِ في مجالاتِ العلومِ والتكنولوجيا والهندسةِ والرياضياتِ (STEM)، حيث يواجهُ العالمُ العربيُّ فجوةً بينَ مخرجاتِ التعليمِ واحتياجاتِ سوقِ العملِ الرقميِّ. هذا الخللُ يهددُ بإبطاءِ التحوُّلِ الرقميِّ، حيث لا يكفي توفيرُ البنيةِ التحتيةِ دونَ الاستثمارِ في رأسِ المالِ البشريِّ القادرِ على تطويرِ الحلولِ الرقميةِ محليًّا.

إضافةً إلى ذلكَ، يبرزُ تحدٍّ آخرُ أكثرُ تعقيدًا، وهو غيابُ التمويلِ الموجَّهِ إلى الابتكاراتِ ذاتِ البعدِ الاستراتيجيِّ. فرغمَ أن صناديقَ الاستثمارِ الجريءِ بدأتْ تتنامى في المنطقةِ، إلا أن معظمَها يركزُ على نماذجِ أعمالٍ ذاتِ دورةِ حياةٍ قصيرةٍ، بدلًا من الاستثمارِ في تكنولوجيا المستقبلِ مثلَ الذكاءِ الاصطناعيِّ، وسلاسلِ الكتلِ، وحلولِ الأمنِ السيبرانيِّ، وهي المجالاتُ التي تحددُ مسارَ الهيمنةِ الاقتصاديةِ في العقودِ المقبلةِ.

الرؤيةُ الاستراتيجيةُ للابتكارِ الرقميِّ العربيِّ

لمواكبةِ التحولاتِ الجاريةِ على الساحةِ العالميةِ، تحتاجُ الاقتصاداتُ العربيةُ إلى مقاربةٍ أكثرَ ابتكارًا تتجاوزُ مجردَ استهلاكِ التكنولوجيا إلى إعادةِ هندسةِ دورِها في النظامِ الرقميِّ العالميِّ. ولتحقيقِ ذلكَ، هناكَ مجموعةٌ من الخطواتِ التي ينبغي تبنيُّها، نسردُها هنا باختصارٍ:
أولًا، ضرورةُ تبنِّي سياساتٍ تدعمُ تطويرَ منصاتٍ رقميةٍ محليةٍ تتيحُ للدولِ العربيةِ امتلاكَ سيادتِها الرقميةِ بدلًا من الاعتمادِ الكلِّيِّ على منصاتٍ غربيةٍ أو آسيويةٍ.
ثانيًا، الاستثمارُ في تطويرِ المهاراتِ الرقميةِ عبرَ إصلاحِ أنظمةِ التعليمِ وتوجيهِها نحو التخصصاتِ التي تشكِّلُ العمودَ الفقريَّ للاقتصادِ الرقميِّ، مما يتيحُ خلقَ جيلٍ قادرٍ على إنتاجِ الحلولِ بدلًا من استيرادِها.
ثالثًا، إعادةُ النظرِ في البيئةِ التنظيميةِ بحيث تكونُ أكثرَ مرونةً وملاءمةً للتحولاتِ الرقميةِ، مع التركيزِ على دعمِ الشركاتِ الناشئةِ في القطاعاتِ ذاتِ القيمةِ المضافةِ العاليةِ.
وأخيرًا، لا يمكنُ للمنطقةِ العربيةِ تحقيقُ أيِّ قفزةٍ نوعيةٍ في الابتكارِ الرقميِّ دونَ بناءِ الشراكاتِ الإقليميةِ في مجالِ التكنولوجيا، وهو ما يستدعي تكاملًا رقميًّا أوسعَ بينَ الدولِ العربيةِ لتشكيلِ سوقٍ رقميةٍ موحَّدةٍ قادرةٍ على المنافسةِ عالميًّا.

الاقتصادُ الرقميُّ العربيُّ ورهاناتُ المستقبلِ

في خضمِ هذا المشهدِ المتغيرِ، يصبحُ من الضروريِّ التوقفُ عندَ التساؤلِ حولَ موقعِ العالمِ العربيِّ في الاقتصادِ الرقميِّ العالميِّ، وهو ما يقودُنا إلى الخاتمةِ التاليةِ:
لا تُقاسُ الأممُ بمدى اندماجِها في التحولاتِ الرقميةِ، بل بقدرتِها على توجيهِ هذه التحولاتِ لصياغةِ مستقبلِها الاقتصاديِّ والسياسيِّ بمعاييرِها الخاصةِ، وليس وفقَ إملاءاتِ القوى المهيمنةِ على التكنولوجيا. في عالمٍ باتتْ فيه البياناتُ والنظمُ الرقميةُ أدواتٍ للنفوذِ بقدرِ ما هي أدواتٌ للنموِّ، يجدُ العالمُ العربيُّ نفسَهُ أمامَ اختبارٍ تاريخيٍّ: إما أن يكونَ مُنتِجًا للمعرفةِ، ومُطوِّرًا لحلولٍ تكنولوجيةٍ تعكسُ احتياجاتِهِ الاقتصاديةَ والاجتماعيةَ، أو أن يبقى مجردَ سوقٍ استهلاكيةٍ لأنظمةٍ تُصمَّمُ خارجَ حدودِهِ وتُفرضُ عليهِ دونَ أن يمتلكَ زمامَ توجيهِها.

في هذه اللحظةِ الفارقةِ، لا يمكنُ للاقتصاداتِ العربيةِ الاكتفاءُ بدورِ التابعِ في معادلةِ الاقتصادِ الرقميِّ العالميِّ، ولا يمكنُها تأجيلُ قراراتِها بشأنِ الاستثمارِ في الذكاءِ الاصطناعيِّ، وسلاسلِ الكتلِ (البلوكتشين)، والابتكاراتِ الاستراتيجيةِ التي أصبحتْ تعيدُ رسمَ موازينِ القوى الاقتصاديةِ. بلغةِ المنطقِ، المستقبلُ لا يُمنحُ، بل يُصنعُ، ومن لا يمتلكُ بنيتَهُ الرقميةَ المستقلةَ اليومَ، لن يمتلكَ صوتَهُ في الاقتصادِ العالميِّ غدًا.