الاقتصادات العربية والاعتماد على صندوق النقد الدولي

...
التاريخ: 24 - 05 - 2025

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

تواجه الاقتصادات العربية، مثل العديد من اقتصادات العالم، تحدياتٍ جمةً في ظل التغيرات الاقتصادية العالمية المتسارعة. وقد ازدادت هذه التحديات تعقيدًا مع الأزمات المتتالية التي يواجهها صندوق النقد الدولي، الذي يعد لاعبًا محوريًا في دعم واستقرار هذه الاقتصادات. ورغم أهمية دور صندوق النقد في دعم الدول النامية، فإن تجربة الدول العربية مع الصندوق تحمل أبعادًا متعددة، حيث يشير العديد من تقارير الصندوق إلى بعض القضايا التي يواجهها مثل الفساد والبيروقراطية، ولكنه في كثير من الأحيان لا يوليها نفس الأهمية التي يوليها لبعض القضايا الأخرى.

من أبرز هذه القضايا هي الدعوات المتكررة من صندوق النقد لتقليص حجم العمالة في القطاع العام والحكومي. ورغم تلك الدعوات، فإن الصندوق لا يقترب من معالجة ملفات أخرى تتعلق بإهدار الموارد وسوء استخدامها في مشروعات قد لا تكون ملائمة لظروف اقتصادات هذه الدول. فالمشروعات الحكومية غالبًا ما تكون غير مجدية اقتصاديًا، مما يؤدي إلى تفاقم الأعباء على الاقتصادات العربية بدلًا من أن تسهم في تحفيزها.

في هذا السياق، تبرز قضية استدامة الديون العامة في العديد من الدول العربية، وهو أمر نبهت إليه مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا مؤخرًا، مشيرةً إلى أن ديون بعض الدول العربية قد وصلت إلى مستويات قياسية تجاوزت 90% من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم ذلك، فإن الحديث عن استدامة الديون لا يعدو أن يكون بمثابة ضوء أخضر لتوسع الدول في الاقتراض، مما قد يشجع الحكومات على التوسع في المديونية العامة بشكل غير رشيد. كان من الأجدر بصندوق النقد أن يولي اهتمامًا أكبر بمساءلة هذه الدول حول كيفية استخدام القروض ومدى الشفافية في التعامل معها.

تجربة الدول العربية مع صندوق النقد الدولي تُظهر أن هذه البرامج غالبًا ما تنتهي إلى المزيد من التعقيدات الاقتصادية. فالدول مثل الأردن والمغرب وموريتانيا واليمن، على سبيل المثال، لا تكاد تخرج من برنامج مع الصندوق حتى تدخل في برنامج آخر للحصول على قروض إضافية. ورغم هذه البرامج المتعاقبة، لم تحقق هذه الدول تقدمًا ملموسًا في حل مشاكلها الاقتصادية. في المغرب، على سبيل المثال، قدمت الحكومة طلبًا جديدًا لصندوق النقد الدولي للحصول على تمويل بقيمة 5 مليارات دولار، وفي المستقبل القريب، قد تتبع ذلك بطلب آخر، مما يثير تساؤلات حول فاعلية هذه السياسات في تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية المستمرة.

كما أن تذبذب أسعار النفط يعتبر أحد الأسباب الرئيسة في ضعف اقتصادات المنطقة، حيث تعتمد العديد من هذه الاقتصادات بشكل كبير على إيرادات النفط. فعند حدوث أي انخفاض في أسعار النفط، يتأثر النمو الاقتصادي بشكل مباشر، وتزداد مشكلات ميزان المدفوعات، كما حدث خلال جائحة كورونا التي أثرت بشكل كبير على الطلب العالمي على النفط والسياحة، وهما من المصادر الرئيسية لإيرادات العديد من الدول العربية.

رغم الأزمات المستمرة التي تواجهها المنطقة العربية من حروب وصراعات اقتصادية وسياسية، لا يمكن تجاهل الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي في دعم اقتصادات هذه الدول من خلال برامج الإقراض التي تهدف إلى مساعدتها على تجاوز أزماتها. ومن خلال هذه البرامج، يوفر الصندوق الاستشارات الفنية ويساعد في بناء قدرات المؤسسات الاقتصادية لدعم استدامة النمو في الدول العربية. ومع ذلك، يواجه صندوق النقد الدولي تحدياتٍ كبيرةً تتمثل في صعوبة توفير التمويل اللازم لهذه البرامج، إضافة إلى الشروط الاقتصادية الصارمة التي قد تكون غير مقبولة في بعض الدول العربية، مما قد يؤدي إلى تأخير تنفيذ الإصلاحات.

إن الاعتماد الكبير لبعض الدول العربية على صندوق النقد الدولي يثير المخاوف بشأن فقدان السيادة السياسية والاقتصادية. ولهذا، بات من الضروري أن تعمل الدول العربية على تنويع مصادر دخلها، وأن تبتعد عن الاعتماد الكلي على النفط، وأن تقوم بتنفيذ إصلاحات هيكلية عميقة لتعزيز تنافسيتها الاقتصادية. وفي هذا السياق، يمكن أن يشكل التعاون الإقليمي بين الدول العربية حجر الزاوية في تعزيز التكامل الاقتصادي وحل المشكلات المشتركة التي تواجهها المنطقة. ينبغي أن تركز الدول العربية على بناء شراكات استراتيجية مع المؤسسات المالية الدولية والبنوك المركزية الأخرى لتأمين الدعم المالي اللازم لمشروعات التنمية.

في الختام، رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها الاقتصاديات العربية في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية وأزمة صندوق النقد الدولي، إلا أن هناك فرصًا حقيقية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل. يتطلب الأمر اتخاذ خطوات جادة نحو تنويع الاقتصادات، وتطبيق الإصلاحات الهيكلية الضرورية، من أجل تجاوز هذه الأزمات والانطلاق نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.