القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
لم تعد الهجرة بين قارات العالم ظاهرة ديموغرافية تُقاس بالأرقام والنسب، بل تحولت إلى قوة جيوسياسية واقتصادية تعيد تشكيل العالم وفق منطق التداخل بين البشر والحدود. إن تحرك الأفراد عبر الفضاءات الدولية لم يعد مسألة لجوء أو سعي إلى فرص أفضل، بل أصبح عملية تعيد إنتاج معنى الدولة، وطبيعة السيادة، وهوية المجتمعات. ففي ظل اختلال التوازن بين مراكز القوة الاقتصادية ومصادر النمو السكاني، تبرز الهجرة كآلية غير رسمية لإعادة توزيع الموارد البشرية والطاقات الفكرية، ما يجعلها عاملاً أساسياً في صياغة المستقبل العالمي.
من منظور اقتصادي، تُمثل الهجرة قوة دافعة للنمو في الدول المستقبِلة، خصوصًا تلك التي تعاني نقصًا في العمالة، سواء في المهارات المتقدمة أو الوظائف الخدمية التي ينفر منها السكان المحليون. تشير تجارب عدد من الاقتصادات المتقدمة إلى أن تدفقات الهجرة لعبت دورًا محوريًا في إعادة إحياء قطاعات صناعية وخدمية كانت على شفا الانهيار، وفتح آفاق جديدة لريادة الأعمال، حيث يُظهر المهاجرون ميلاً أكبر لتحمل المخاطر، والانخراط في مشاريع مبتكرة نظرًا لارتباطهم المباشر بالحاجة إلى إعادة بناء الذات والانتماء.
من جهة أخرى، تسهم الهجرة في تخفيف آثار التراجع الديموغرافي الذي تواجهه كثير من المجتمعات الغربية. ففي دول تتناقص فيها معدلات الولادة وترتفع فيها نسب الشيخوخة، يشكّل المهاجرون شريانًا ديموغرافيًا جديدًا يُعيد التوازن إلى القوى العاملة، ويضمن استمرار الأنظمة الاجتماعية التي تعتمد على مساهمات الأفراد النشطين اقتصادياً. هذا الأثر لا يتوقف عند الدول المستقبلة، بل يمتد إلى الدول المصدرة للهجرة، حيث تُعد التحويلات المالية مصدراً حيوياً لدعم الاقتصادات المحلية، وتؤدي إلى تحسين مستويات المعيشة، وتوسيع الطلب الاستهلاكي، مما يحفز الأنشطة الاقتصادية محليًا.
لكن المشهد ليس بتلك البساطة. فمع تدفق المهاجرين، تظهر تحديات عميقة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، بل تشمل التوترات الاجتماعية والتقلبات السياسية. في المجتمعات التي تُعاني أصلاً من هشاشة الهوية الجماعية أو تصاعد النزعة القومية، تُصبح الهجرة ساحة صراع رمزية، تعكس المخاوف من الانصهار الثقافي أو من تقويض ملامح الدولة القومية. يترافق ذلك مع صعود خطابات شعبوية تحول المهاجر من عامل منتج إلى “آخر” مُهدد، وتربط بين وجوده وبين كل أزمة داخلية، من الركود الاقتصادي إلى تراجع الأمن العام.
كما أن التحديات المرتبطة باندماج المهاجرين في المجتمعات الجديدة ليست مسألة إدارية، بل تكمن في الحدود غير المرئية التي ترسمها الثقافة والسياسة. فغياب سياسات إدماج فعالة، أو ضعف الاعتراف بالمؤهلات والمهارات، قد يؤدي إلى تهميش طويل الأمد، ويُنتج طبقات سكانية مُعزولة اقتصادياً وثقافياً، ما يضاعف من مخاطر الغضب الاجتماعي والعنف السياسي. في المقابل، فإن فقدان الأدمغة من الدول النامية يُنتج هو الآخر حلقة معقدة من عدم المساواة، حيث يُهاجر رأس المال البشري من حيث يُحتاج إليه بشدة، مما يترك فجوات هيكلية في اقتصادات تلك البلدان ويعمق تبعيتها.
البُعد السياسي للهجرة يُلامس سيادة الدول وهويتها القانونية. فمع تصاعد موجات الهجرة القسرية الناتجة عن النزاعات المسلحة وتغير المناخ، تصبح قدرة الدول على إدارة الحدود والسياسات المتعلقة باللجوء موضع اختبار مستمر. تنشأ بذلك حالة من التوتر بين مقتضيات السيادة من جهة، والالتزامات الدولية لحقوق الإنسان من جهة أخرى، وهي معادلة لم تتمكن حتى الآن أكثر الأنظمة السياسية تطورًا من حلّها بما يوازن بين الواقعية والمسؤولية الأخلاقية.
في المستقبل المنظور، من المرجح أن تصبح الهجرة عاملاً مفصليًا في تحديد ملامح النظام الدولي الجديد. ليس لأن أعداد المهاجرين ستتزايد بالضرورة، بل لأن قدرتنا على إدارتها ستُعيد ترتيب أولويات السياسات العالمية. ستحتاج الدول إلى نماذج أكثر مرونة وابتكارًا لإدارة تدفقات البشر، قائمة على فهم أعمق للعلاقات بين التنمية والأمن، وبين السوق والدولة، وبين الهوية والانتماء. كما سيُصبح التعاون الدولي بشأن الهجرة ضرورة لا بديل عنها، لا فقط لضبط الحدود، بل لصياغة آليات مستدامة لإعادة التوطين، وضمان الكرامة الإنسانية، وتطوير أدوات رقمية ذكية تنظّم حركة البشر دون المساس بحرياتهم الأساسية.
من المرجح أيضًا أن تلعب التكنولوجيا دورًا أكثر تأثيرًا، ليس فقط في تتبع المهاجرين أو إدارة الحدود، بل في خلق أنماط جديدة من الهجرة الرقمية، حيث يُصبح العمل عابرًا للحدود دون حركة جسدية. وهذا التغيير سيفرض تحديات قانونية جديدة تتعلّق بالجنسية، والمواطنة، والضرائب، وحقوق العمل، ويطرح أسئلة غير مسبوقة عن معنى الانتماء في عصر الهوية المتحركة.
وختامًا، فإن الهجرة ليس إلا انعكاس حي لتحولات هذا العالم المضطرب. إنها المرآة التي تعكس تناقضات العالم الذي نعيش فيه، وتُظهر عمق التفاوتات فيه، وتعبر أيضًا عن طموح إنساني عميق للبحث عن الفرصة، والأمن، والكرامة. الطريقة التي نتعامل بها مع هذه الظاهرة في السنوات القادمة ستحدد ملامح النظام الدولي، وستُفصح عن القيم التي نريد أن نؤسس عليها هذا العالم. فإما أن نستمر في بناء الحدود وعالماً تحكمه الحواجز، أو نعيد بناء مفهوم السياسة على أسس التفاهم والتعددية والانفتاح على الآخر.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |