مداخلة الدكتور محمود محي الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولي في الدورة الرابعة للقمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية

...
التاريخ: 20 - 01 - 2019

كما وردت من المصادر الرسمية للقمة العربية التنموية التي عقدت في بيروت في الفترة من 20-21 يناير 2019

ينعقد هذا المؤتمر الهام في وقت أصبح فيه العالم أكثر تقلبا من الناحية السياسية وأكثر هشاشة من الناحية الإقتصادية. فقد ضعفت معدلات نمو الإقتصاد العالمي، وتزايدت حالات التوتر والنزاعات في التجارة الدولية، وازدادت المخاطر المحدقة بالإقتصادات المختلفة مع احتمالات ارتفاع تكلفة الاقتراض. ومع استمرار هذه الأجواء الضبابية، يتجنب الإستثمار المخاطرة فيلوذ بأوعية آمنة في تقديره وان كانت قليلة العائد المالي، ولا تسهم في زيادة معدلات النمو أو تخفيض البطالة أو تحقيق أهداف التنمية المستدامة

نشهد تغيرات في موازين القوى الإقتصادية العالمية والإقليمية، والتي تسارعت وتيرة تغيرها مع الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008، ما سبقها ولحقها من أزمات من أسعار الغذاء والطاقة. وتعكس، فيما تعكس، تواتر النزعات الحمائية،وتصاعد دور التيارات الشعبوية اليمينية واليسارية مع حدة الإستقطاب في الشارع السياسي تزامنا مع حالة الجزع من تراجع نسبي لبعض القوى الإقتصادية التقليدية، وتقدم للبازغين من القوى الإقتصادية الجديدة. وبين المنحسرين والبازغين يتلمس العرب مكانا لهم على أمل ان تكون ترتيبات النظام الدولي الجديدة أكثر إنصافا. وقد علمنا أنه بغير الدأب المتواصل على التطوير والتحديث والإرتقاء برأس المال البشري وتطويع تكنولوجيا العصر تخسر الأمم في مضمار التقدم، ولا يبقى لديها من مجد الأقدمين إلا آثارا وأطلالا

وفي ظل هذه الحالات من الإضطراب وعدم اليقين والحراك السريع الذي يشهده عالم شديد التغير، يعاني من تقلبات بيئية وتغيرات المناخ وزيادة مخاطر الجفاف، وارتفاع موجات نزوح البشر وكثرة اللاجئين والمهاجرين قسرا بسبب الصراعات والكوارث الطبيعية وتسارع وتيرة التحولات التكنولوجية في عصر أطلق عليه “عصر المربكات الكبرى” تجد الإقتصاد العربي، فضلا عن هذه التحديات العالمية التي يتأثر بها، وقد أصابته، منذ بداية هذا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، من الملمات الجيوسياسية ما أصابه، إذ تقدر تكلفة الخسائر في النشاط الإقتصادي بسبب الحروب والصراعات ما يزيد على 900 مليار دولار لتضيف عبئا على أعباء تراكمت من تراجع في النمو والتنمية الشاملة في البلدان العربية إلا قليلا

وبينما نجحت الأقاليم الإقتصادية حول العالم من تخفيض نسبة من يعانون من الفقر المدقع، إلا ان هذه النسبة قد زادت عربيا إلى الضعف من 2,6 بالمئة إلى 5 بالمئة في الفترة من 2013 وحتى 2015 وهو آخر إحصاء صدر عن البنك الدولي في عام 2018

كما أن الإقليم الإقتصادي العربي هو الأسوأ في عدم العدالة في توزيع الدخل، إذ يستحوذ أغنى 10 بالمئة من السكان على 61 بالمئة من الدخل القومي، في حين أن العشرة بالمئة الأغنى في أوروبا لا يتجاوز نصيبهم 37 بالمئة وفي الصين 42 بالمئة والهند 55 بالمئة من دخولهم القومية

وحري بالإقتصاد العربي التحرك سريعا ليلبي احتياجات عموم الناس وتوقعاتهم، ولكن تأتي توقعات النمو الإقتصادي مشيرة إلى تحسن طفيف في نمو الإقتصادات العربية لتصل الى 2,3 بالمئة في هذا العام، مقارنة بالعام الماضي الذي استقر معدل نمو الإقتصادي فيه عند 2 بالمئة فقط، وهو رقم شديد الإنخفاض لا يلبي احتياجات التنمية وزيادات السكان وتوقعاتهم

ويعاني الإقتصاد العربي من أعلى نسبة بطالة في العالم، إذ وصلت هذه النسبة الى 10,6 بالمئة وهي تقترب من ضعف متوسط نسبة البطالة العالمية ومقدارها 5,7 بالمئة وهي أشد تركزا بين شباب العرب وأعلى بين النساء مقارنة بالرجال. ويحتاج الإقتصاد العربي توليد 10 ملايين فرصة عمل جديدة كل عام حتى يتصدى لمعضلة البطالة، على أن تتاح هذه الفرص وفقا لسياسات نمو شاملة تعزز من فرص مشاركة النساء في سوق العمل، على النحو الذي أكده بلحاج نائب رئيس البنك الدولي في كلمته أمس (20 يناير 2019) في مؤتمر المشرق حول التمكين الإقتصادي للمرأة تحت رعاية الرئيس سعد الحريري. يأتي هذا إنصافا للمرأة العربية وتقديرا لكفاءتها كلما أتيحت لها الفرص، ودعما لتنمية مستدامة لا تفتئت على حقوق الناس أو تهدر نصف طاقته البشرية عبثا

والمجتمعات العربية تزداد شبابية في هرمها السكاني، فما يقترب من 60 بالمئة من السكان تحت سن الثلاثين، ويتزامن ذلك مع زيادة توقعات العمر عند الولادة في ذات الوقت وهي أمور إيجابية إذا أحسن الإستعداد لها بزيادة الإستثمار في التعليم والرعاية الصحية كمكونات رئيسية لرأس المال البشري، والبنية الأساسية المعينة على الإستفادة من أنشطة الإقتصاد الجديد الذي تدخل تكنولوجيا المعلومات والمستجدات الرقمية في كافة أبعادها. فضلا عن الإستثمار في مجالات التوقي من المخاطر. وإن كانت هذه أولويات المستقبل الذي تضع أجندة التنمية المستدامة لعام 2030 إطارا عمليا زمنيا لها، فإن التعامل معها يلزمه استثمار ضخم يحتاج الى موارد مالية متنوعة المصادر وفقا لخطة عمل تمويل التنمية التي أقرتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في يوليو من عام 2015 في أديس أبابا

وقد تقدمت عشر دول عربية بخططها الطوعية لبرامجها التنموية في إطار المنتدى السياسي رفيع المستوى للمنظومة الأممية، وستتبعها 6 دول أخرى في يوليو القادم، توافقت برامجها المعلنة مع أجندة التنمية المستدامة، وقد علمتنا تجارب التنمية ان الأمر يتطلب ثلاثة مستلزمات: بيانات وافية تعين اتخاذ القرار وتتابعه، وتمويل مناسب لبرامج ومشروعات التنمية وتطبيق فعال على المستوى المحلي. وتظهر الدراسة المتميزة التي أعدها “المنتدى العربي للبيئة والتنمية” والصادرة في بيروت في شهر نوفمبر الماضي أن الإقتصادات العربية تحتاج الى تمويل يصل حده الأدنى الى 230 مليار دولار سنويا، للاسهام في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وان الفجوة التمويلية في الدول ذات العجز المالي تصل الى 100 مليار دولار سنويا. فدعونا نتدبر سويا من أين سيأتي هذا التمويل الضخم

وأود تأكيد ان تمويل التنمية المستدامة لا يأتي من خلال صفقات مالية متناثرة أو إنفاق مشتت بل يجب أن يستند لنهج متكامل قوامه سياسات متناسقة ومؤسسات ذات كفاءة، ويعتمد هذا النهج على تمكين الشباب أو المرأة من خلال إتاحة فرص العمل والإستثمار وريادة الأعمال من خلال مؤسسات متخصصة وتمويل داعم. كما يركز هذا النهج على توطين التنمية محليا في منافسة بين المدن والمحافظات والأقاليم في جذب الإستثمارات وتطوير وحدات الإنتاج والخدمات الأساسية والمتطورة ورفع الكفاءة من خلال إجراءات المالية العامة ودفع التنافسية وتحفيز الإبتكار. ولا يغني ذلك عن منع نزيف خسائر الكيانات الإقتصادية المملوكة للدولة، وضرورة استخدام الأصول المعطلة في زيادة الموارد وتحويلها الى أصول منتجة أو أرصدة تمول التنمية، لا أن تترك بلا نفع فيها كأعجاز نخل خاوية

وأول محاور تمويل التنمية العربية السبعة، التي يمكن لمجموعة البنك الدولي الإسهام في تطويرها من خلال الدعم الفني والإسهام المالي ونقل الخبرات الدولية والمعارف، يعتمد على تعبئة الموارد المحلية بكفاءة وإنفاقها بفاعلية وحسن استهداف مجالات الإنفاق العام، وهناك ضرورة للتصدي العاجل لخلل الموازنات العامة العربية، وما يترتب عليه من تراكم للمديونيات المحلية والدولية، وارتفاع معدلات التضخم والغلاء. فرغم تحسن طفيف طرأ على إجمالي موازنات الإقتصاديات العربية بانخفاض العجز فيها الى 4,5 بالمئة، وفقا للتقديرات مقارنة بالعام المنصرم، فإن مدى تعرضها لصدمات اقتصادية ما زال كبيرا، ومع اتجاهات ارتفاع تكلفة الإقتراض لتمويل العجز وانخفاض الإيرادات السيادية، تتزايد المخاطر

ونلاحظ انه رغم جهود بذلت لتنويع الهيكل الإنتاجي للاقتصادات العربية ومواردها، فإن موازناتها العامة وموازين مدفوعاتها الدولية ما زالت شديدة التأثر بتقلبات أسعار النفط بشكل مباشر وغير مباشر. فبعدما تجاوز متوسط سعر النفط 100 دولار في الفترة من 2011 الى 2014 أصبح أقل من 50 دولارا في الفترة من 2015 الى 2018، والتوقعات التي تتم مراجعتها دوريا، أن يحوم السعر حول 69 و74 دولارا في العامين الحالي والقادم. وهذا التقلب الشديد في أعوام قليلة لا يعين على ضبط الموازنات ودفع النمو لاقتصادات ما زالت شديدة الإرتباط بسلعة واحدة ومشتقاتها، في عالم يشهد تغيرا في خريطة تصدير النفط وتخفيض الإعتماد عليه بالتنوع في مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة

وقد شاهدنا جهود الإصلاح ومساعي تنويع القاعدة الإنتاجية ومصادر الطاقة وهي تشتد مع انخفاض أسعار النفط في الدول المصدرة، ومع ارتفاعه في الدول المستوردة ثم سرعان ما تفتر هذه الجهود مع تغيرات اتجاه الأسعار مما يعسر من شأن الإقتصاد واستقراره ونموه. حسنا فعلت بعض الدول العربية باتخاذ إصلاحات في المالية العامة وبإنشاء صناديق سيادية، تديرها مؤسسات محترفة لزيادة العوائد على الإستثمار وتنويع مصادر الدخل وحماية حقوق الأجيال القادمة

لكن هناك حاجة الى تحسين الموارد الضريبية للموازنات العامة العربية التي تبلغ متوسط 11 بالمئة من الدخل القومي بما يقل عن المتوسط الموصى به بألا تقل إيرادات الضرائب عن 15 بالمئة من الدخل القومي. وهذا يستوجب إصلاحا مؤسسيا وتشريعيا وتوعية وعدالة في تحمل العبء الضريبي وكفاءة وفاعلية وانضباط في الإنفاق وبضبط الإنفاق العام سيتاح التمويل المصرفي وغير المصرفي للقطاع الخاص ليقوم بدوره في التنمية مسهما في نمو الإقتصاد ومتيحا لفرص العمل ودافعا للضرائب عن أرباحه المتحققة. خفضت التقنية المالية الحديثة من تكلفة المعاملات ورفعت قدرات خدمة أعداد غفيرة من العملاء الجدد من خلال خدمات الأنترنت والهاتف الجوال، فوصلت الخدمات المالية لمناطق نائية وريفية بعدما كانت حكرا على بعض المناطق الحضرية

ولكن هناك مخاطر تتعلق بمدى تأمين نظم المدفوعات وأمان تداول المعاملات وحماية المتعاملين وسرية حساباتهم ووقايتها من مخاطر جديدة قد تتعرض لها شبكات التداول ومنصاتها. كما ان هناك تحديا يرتبط بالتنسيق بين جهات الرقابة المالية والبنوك المركزية وشركات تقديم خدمات الهاتف وشركات التكنولوجيا. وقد فرضت انتهاكات الخصوصية، من خلال الولوج الى قواعد البيانات الكبرى والتلاعب بها، خطرا جديدا ينبغي التصدي له. كما تظهر خدع ما يسمى بالعملات الرقمية المشفرة، والتقلب العنيف في أسعارها بين ارتفاع وانهيار بلا سبب منطقي معلوم، ضرورة أخرى لوجود سياسة متكاملة للتقنية المالية، والإرتقاء بالرقابة المالية ومهارات العاملين فيها، وتطوير قواعد حماية المتعاملين مع الجهات التي توفر الخدمات المالية سواء كانت مصرفية أو غيرها، والإرتقاء بالوعي المالي في المجتمع. وقد شهدت الإجتماعات السنوية الأخيرة للبنك وصندوق النقد الدوليين، التي عقدت في بالي في إندونيسيا، تدشينا لما أطلق عليه “أجندة بالي للتقنية المالية” تناولت 12 عنصرا محددا لزيادة النفع من إسهامات التقنية المالية في تعبئة الموارد وتوجيهها لمسارات التنمية، مع الحفاظ على الإستقرار النقدي والمالي وحماية الحقوق، والعبرة، من قبل ومن بعد، بفاعلية التطبيق

ثالثا: في خطة تمويل التنمية المستدامة محورا لتدفقات التمويل الخاصة في شكل استثمارات أجنبية وغيرها، وتبرز الإسكوا في دراسة لها أن مقابل كل دولار من الإستثمارات يأتي للاقتصاد العربي فإن 1,8 دولارا يخرج منها كاستثمارات في دول غير عربية أو كعوائد استثمار للشريك الأجنبي، علما بأن الإستثمارات الأجنبية للدول العربية في عمومها قد تراجعت ولم تعد لمستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية. هذا فضلا عن تزايد حجم الإيداعات العربية في الخارج في شكل ودائع مصرفية. واذا أضفنا تحويلات العاملين بالخارج، فرغم أهميتها لعدد من الدول العربية، فان الاقتصادي العربي مصدر صاف لهذه التحويلات. قد تختلف هذه الصورة في بعض البلدان ولكن هذا هو الوضع العربي العام

وتلوح فرصا للاقتصادات العربية مع تدفقات متزايدة عالميا في مجالات التمويل الاخضر وكذلك ما يعرف بالاستثمار المؤثر وتزايد إنشاء صناديق تمويل ضخمة على مدار العامين الماضيين صرح مؤسسوها بان استثماراتهم تتشكل من هذا النوع المؤثر اجتماعيا وبيئيا لا سواه. وأعلن مؤخرا ان الأصول المستثمر فيها قد بلغت 228 مليار دولار في شهر ديسمبر 2018، بزيادة تقدر بضعف قيمة ما كانت عليه في العام السابق. وتشير التوقعات الى ان تتجاوز أرقام هذه الاستثمارات تريليون دولار في الأجل القصير

ويميز هذا النوع من الاستثمار استهدافه لمجالات تحقق عائدا اجتماعيا وبيئيا إيجابيا، قابلا للقياس، فضلا عن العائد المالي لمشروعاتها. قد يتداعى الى الذهن أن الاستثمار المسؤول اجتماعيا أمر متعارف عليه منذ فترة. ويعتمد على معايير بيئية واجتماعية بالاضافة للحوكمة. لكن الجديد في الأمر يتمثل في أن المستثمرين لا يكتفون بمجرد تجنب إلحاق الضرر بالبيئة او المجتمع، لكنهم يستهدفون بالأساس تحقيق قيمة مضافة إيجابية وملموسة من خلال مشروعاتهم

رابعا، استقرت المساعدات الإنمائية الرسمية عالميا عند متوسط 15 مليار دولار سنويا، رغم مطالبة الدول المانحة بالوفاء بتعهد منحها 0.7 % من دخولها للدول الأقل دخلا، فقليل من المانحين يلتزمون. لكن نصيب المنطقة العربية قد زاد مؤخرا بعد انخفاض لسنوات، وتوجهت بالأساس للمجالات الانسانية وعون اللاجئين. وفي كل الأحوال فإنه ورغم أهمية هذه المساعدات للدول منخفضة الدخل وتلك التي تعاني من هشاشة او عانت لسنوات من صراعات وحروب أهلية، فإنها من الممكن أن تعين في مراحل التحول نحو الاستقرار خاصة في القطاعات ذات الأثر الاجتماعي

خامسا، مع ارتفاع الدول في كثير من الدول العربية وانخفاض الإدخار في أغلبها أصبح لزاما عليها ان تحدد إطار تمويل التنمية بشكل متكامل، وكيفية التنسيق بين مصادر التمويل العامة والخاصة والمحلية والاجنبية وتفعيل نظم المشاركة بما يدفع بالنمو قدما ويقلل أعباء الديون. وتحدد ورقة عمل مشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ثلاث مجالات للتعامل مع متطلبات ادارة الديون العامة أولها هو زيادة قدرات الدول على التحليل الفني للديون والمالية العامة وسياساتها. والمجال الثاني معني هو تدعيم نظم الإفصاح والمعرفة والمعلومات لكي يتضح حجم الديون والالتزامات بانواعها على كافة الاطراف واجراءات الاصلاح وفتراتها وأعبائها. والمجال الثالث يرتبط بتدعيم قدرات مؤسسات الدولة والتنسيق بين سياساتها في مجال ادارة الديون والمخاطر. غني عن الذكر أن هذه المجالات الثلاث في التعامل مع الديون تستوجب ادارة فعالة لجانب الاصول المملوكة للدولة وتعظيم العائد منها

سادسا، هناك بعد للتجارة لا ينبغي إغفاله في تحقيق أهداف التنمية، وما زالت التجارة البيئية في العالم العربي متواضعة عند نسبتها الى إجمالي التجارة، فهي لا تتجاوز 10% في أفضل الأحوال تعوقها تكاليف النقل واللوجيستيات رغم اقتراب المسافات، ورغم وفرة في المواثيق الممكنة لانسياب التجارة البينية الا أن تفعيلها كان محدودا في تخفيض تكلفة المعاملات، وهناك إشارة أن المتوسط الاقليمي العربي لاجراءات تيسير التجارة لا يتجاوز 56% في بعض التقديرات، فضلا عن المعوقات غير الجمركية ومصاعب التجارة في الخدمات

وتتيح تكنولوجيا المعلومات والاقتصاد الرقمي، اذا ما استخدمت بكفاءة، فرصا كبيرة لتدفق الصادرات والواردات العربية البينية

واذا كان هذا شأن التجارة التقليدية، فلعله من الواجب اليوم ان يكون لدى الاقتصادات العربية استراتيجية متكاملة تختص بالتجارة الالكترونية تسهم في التوافق مع متطلبات الثورة الصناعية الجدية وأنماط نشاطها الاقتصادي القائم على المنصات الالكترونية وشبكاتها وقواعد البيانات الكبرى وتأمينها وضمن تسوية مدفوعاتها ويسير أعمالها وحماية المتعاملين في نطاقها وتشجيع المنافسة والشمول لخدماتها وربطها بقطاعات الانتاج من خلال سلاسل القيم

سابعا، كما أكدت وثيقة تمويل التنمية المستدامة لن تتحقق أهداف التنمية المستدامة دون الإنتفاع بالعلم والإستفادة من التكنولوجيا والإبتكار. بالعلم والمال يبني الناس ملكهم.. لم يبن ملك على جهل وإقلال. هكذا احتفى أمير الشعراء احمد شوقي منذ 100 عام بتأسيس طلعت حرب ورفاقه من رواد الاستثمار لبنك مصر

ففي الوقت الذي يشهد العالم فيه بزوغ الثورة الصناعية الرابعة، نتذكر أنه لم يكن نصيب العرب من الثورات الصناعية الثلاث السابقة وعوائدها متناسبا مع مقومات وإمكانيات كامنة لديهم. ففي القرن الثامن عشر كان اختراع المحركات البخارية وما أحدثه من نقله نوعية في اقتصاديات الانتاج الصناعي إيذانا بالثورة الصناعية الاولى. أما الثورة الصناعية الثانية، فقد تزامنت مع اكتشاف الكهرباء في القرن التاسع عشر، واستحدثت منتجات جديدة غيرت أنماط الانتاج وطورت من حياة البشر. أما الثورة الصناعية الثالثة فلقد اعتمدت على المستجدات التكنولوجية في القرن العشرين التي ارتبطت باختراع وتطوير الحواسب الآلية وانتشارها في مجالات الانتاج والخدمات ووسائل المعيشة. الا ان الثورة الصناعية الجديدة تمثل نقلة كبرى في انطلاق الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات وما يرتبط بها من ابتكارات ومنتجات التي ستبدل حياة الناس والانتاج بما لم تسبقها اليه اي من الثورات الصناعية السابقة

ليست هناك ثمة مبالغة بالقول بأن “قواعد البيانات الكبرى هي النفط الجديد”، فقواعد البيانات الكبرى هي وقود عصر المعلومات والاقتصاد الرسمي، ولا عجب في أن الشركات التكنولوجية الخمس المسيطرة على قواعد البيانات الكبرى هي الأكبر ربحية والأعلى قيمة في اسواق المال. فهل أعد العرب عدتهم للتعامل مع هذا النفط الجديد، للاجابةعلى هذا السؤال تنبغي مراجعة قوانين المعلومات مثلما فعلت أوروبا بتشريعها بشأن “القواعد الرقابية العامة لحماية البيانات”. كما تجب مراجعة الكفاءة المؤسسية في التعامل مع البيانات والمعلومات جمعا وحفظا وتحليلا وتداولا وإفصاحا ومعايير حماية الخصوصية والسرية

علمنا من نتائج الثورات الصناعية الاولى أن المستقبل لمن سعى منطلقا إلى رحاب التقدم، وأن الفيصل بين التقدم والتخلف مرتهن بسرعة توافق المجتمعات والاقتصادات لمستجدات التكنولوجيا وترويضها لنفع الناس. وهناك مؤشر هام يمكن الاسترشاد به، على سبيل المثال، للتحقق من القدرة على الاستفادة من الثورة الصناعية الجديدة وارتباط موجاتها وهو التصنيف الدولي للرقم القياسي الجديد لرأس المال البشري، الصادر عن البنك الدولي في عام 2018، والذي صنف اقتصادات الدول وفقا لمؤشرات تفصيلية للتعليم والرعاية الصحية واحتمالات توقع الحياة للمواليد حتى سن الالتحقاق بالمدارس. ولم يكن غريبا ان تحتل سنغافورة وكوريا واليابان المراكز الثلاثة الاولى وتجد في ذيل القائمة التي شملت 157 دولة اقتصادات شاسعة الاراضي وغنية بالموارد الطبيعية. أما الدول العربية فكان أداؤها، باستثناءات محدودة، سيئا ولا يليق بقدراتها وكانت النتيجة مماثلة أيضا في مؤشرين آخرين هما: مؤشر الاستعداد للتغير واستيعابه الذي تعده مؤسسة “كي بي إم جي” متضمنا قدرات الحكومات وقطاعات الاعمال والمجتمع المدني على اغتنام الفرص التي يتيحها التغيير سواء كانت صدمات او متغيرات سياسية واقتصادية تحمل فرصا او مخاطر يمكن التعامل معها. – وكذلك تصنيف وحدة الاستعلامات في مؤسسة الاكونوميست للامكانات التكنولوجية المتاحة، من حيث استخدام شبكة المعلومات والبنية الاساسية للاقتصاد الرقمي والانتاج على الافكار والابتكارات بما في ذلك براءات الاختراع والانفاق على البحث والتطوير

لعل فكرة التقدم من خلال التنمية المستدامة، والطموحات المرتبطة بها، تستوجب الاستفادة من منهج عملي واقعي للتنفيذ. وبمناسبة مرور 50 عاما على هبوط أول انسان على سطح القمر لنا فيما فعله الرئيس الاميركي الاسبق جون كينيدي مع وكالة الفضاء الاميركية مثلا. فقد أسست هذه الوكالات، المشهورة بناسا، في عام 1958 لتحقيق أهداف عامة متعددة كغزو الفضاء وتطوير تكنولوجيا متقدمة في مجال عملها على غير ذلك من أهداف عامة وحشد لوكالة ناسا من الموارد ما حشد، جمع لها من العلماء ما جمع. لكن كينيدي أنقذها من مصير بيروقراطي محتوم بأن جعل لها هدفا محددا، وبدونه لظلت هائمة تطلع إلى المجهول دون هدى أو دليل. فما فعله كينيدي في عام 1961 هو أن جعل لوكالة ناسا هدفا محددا بأن تصل بأول انسان الى سطح القمر وأن تعود به سالما إلى الارض قبل نهاية عقد الستينيات. وبهذا حول غموض تعدد الاغراض، إلى هدف طموح، محدد الزمن، سهل التخيل، يمكن الحكم عليه بالنجاح والفشل فتعبأ له الموارد وتحتشد خلف تحقيقه الجهود وتستثار من أجل تحقيقه الهمم وتشحذ العقول. وقد تحقق هذا الهدف فعلا في عام 1969 بالخطوة الاولى التي خطاها رائد الفضاء نيل ارمسترونج، والتي كان لها ما بعدها كقفزة عملاقة للبشرية ، كما تنبأ في كلمته التي بثها من القمر الى سكان الارض

كان ذلك الإنجاز الهائل نتيجة لما يطلق عليه الآن “رمية نحو القمر” بمعنى الطموح الجريء في اتخاذ القرار. فكما يؤكد بيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، من أن الرمية الموفقة نحو القمر تتصف بأنها ذات هدف قابل للقياس، ويأخذ بألباب الناس ويلهمهم، ويغير بشكل جذري ما يمكن اعتباره ممكنا وقابلا للتحقيق

كم يحتاج العرب من رميات موفقة نحو أقمار التقدم والتنمية المستدامة والقضاء على الفقر والإرتقاء بنوعية الحياة. واذ نرجو أن يكون هذا العام الجديد عام خير، فلعل هذه الاولويات، وما يحيط بالتعامل معها من مستجدات عالمية واقليمية، تكون مجالات لتعاون مثمر مشترك لما فيه نفع الشعوب العربية وعموم الناس