أبو ظبي
المصدر: مفكرو الإمارات
أ.د. علي محمد الخوري
شهدت الأسواق العالمية حالة من القلق والصدمة عقب إعلان فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، التعبئة الجزئية لمئات الآلاف من جنود الاحتياط للقتال في أوكرانيا، وتأكيده أن بلاده مستعدة لاستخدام كل وسائلها الدفاعية والقتالية لحماية نفسها وسيادة أراضيها، مع التلويح باستخدام القوة النووية، وهو تهديد شديد قد يشير إلى انتقال فتيل الحرب بين روسيا وأوكرانيا إلى مرحلة جديدة، ونشوب حرب عالمية مرعبة.
حرب عالمية بالوكالة
ما يدعم هذه النظرية هو ما تقوم به أمريكا ومعسكرها الغربي من تسليح معلوماتي وعسكري في أوكرانيا، وحَشْد للمقاتلات الأمريكية والأوروبية باتجاه أراضي روسيا وحدودها عبر بولندا والسويد في القارة الأوروبية؛ ما يُبرِز فعلًا ملامح حرب عالمية بالوكالة على روسيا في أوكرانيا -وإن كانت في مراحلها الأولى- مع تصاعُد تصريحات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، التي تُطالِب الحكومة الروسية بالانسحاب من الأراضي الأوكرانية ووقف الحرب؛ وتوعُّد حلف شمال الأطلسي “الناتو” بحماية دول الحلف مهما كلف الثمن.
صراع الصين وتايوان
كما أن ما يزيد احتمالات تأزُّم الأوضاع وانتقال الحرب إلى الشرق هو دخول الصين في خُطَا الحرب، واستعداد “التنين” لاستخدام القوة العسكرية لضم تايوان واسترجاعها من الحضن الأمريكي في أي مرحلة تاريخية، قد تكون الآن أو بعد سنوات عدَّة؛ غير أن ما يدعو إلى المزيد من القلق هو تعهُّدات الولايات المتحدة الأمريكية بحماية تايوان، ثم نَشْرها معدات عسكرية قرب الجزيرة والحدود الصينية؛ ما فاقم حدَّة توترات الأوضاع في المنطقة التي أصبحت مدجَّجة بالقطع العسكرية الأمريكية والتايوانية من جهة، والقطع العسكرية الصينية من جهة أخرى، وسط حالة من التأهُّب لا تستبعد دخول اليابان والكوريَّتين وروسيا في هذا الصراع.
الركود والكساد
أصبحت كل هذه الأحداث تُقوّض الاقتصاد العالمي، وتُدخله في نفق التباطؤ والانكماش والركود، بعدما أضعفته الأزمات الخانقة المتتالية في السنوات الماضية. ونجد أن الفترات الزمنية بين الكوارث العالمية ذات الأثر الاقتصادي في وقتنا المعاصر باتت متقاربة جدًّا؛ بل متداخلة، بعد أن كانت -من قبل- تصل إلى نحو عشر سنوات بين الأزمة والأخرى أحيانًا؛ كما نجد اليوم أن سرعة مثل هذه الأزمات، وتشابُكها، يضاعفان درجة تعقيد عناصرها وآثارها وأعبائها.
وإن تأثير كل ما يجري في الساحة العالمية سيدفع بمزيد من المخاوف في أسواق العالم التي تشهد اختلالات في أسواق العمل؛ بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية والطاقة، وعدم اليقين المحيط بسلاسل الإمداد؛ وهو ما يشير ضمنًا إلى احتمالات توقف عدد من قطاعات الأعمال عن الإنتاج، واستمرار مسلسل التراجع في الأداء الاقتصادي للدول، وانخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي مع وصول نسب التضخم إلى مستويات قياسية تاريخية.
الرواية المتشائمة (الحرب مستمرة)
ترى كثير من التحليلات أن الحرب الراهنة ستطول حتى يتمكَّن “النسر الأمريكي” من تحجيم قوة “الدب الروسي”، وإضعاف قدرته على الصمود مهما استغرق الوقت. ومع إصرار السياسة الأمريكية على ترسيخ مبدأ سياسة هيمنة القطب الواحد؛ فإن ذلك يعني استخدامها “كروت” أخرى لإقصاء التنين الصيني من جانب آخر؛ وهو ما يمكن أن نتخيَّل معه مزيدًا من السياسات المتهورة التي تُبرِز في الأصل الأجندات الخفيَّة لـ”النسر الجامح”، الذي يُظهِر أنه لن يقبل دخول منافسين جُدد قد يُهدِّدون سيطرته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية القائمة حاليًّا؛ وذلك كفيل بأن ينقسم العالم على نفسه، وتنشأ معه تحالفات جيوسياسية بين مختلف دول العالم، وإعادة تموضع اقتصادي وسياسي.
قلق وتقلبات في الأسواق
من المتوقع أن تظلّ الأسواق العالمية في حالة من التقلب، ولا سيَّما المعادن والعملات والنفط والغاز، وهي قطاعات حيوية محركة لمفاصل الاقتصادات الوطنية، في ظل التصريحات الدولية التي أصبحت تحبس أنفاس العالم المترقب لمدى جدية ما قد تؤول إليه الأمور، وخاصة في أوكرانيا، ومدى قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في مواجهة العقوبات الغربية المتزايدة، وهو المقياس الذي سيحدّد ردة فعل الأسواق.
وفي خضمّ ذلك كله ما زال طريق الأمن والسِّلم العالميين ضبابيًّا ووعرًا؛ بل إن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة أصلًا في كثير من دول العالم، واستمرار مسلسل الصراعات الدولية، سيُلقيان بظلالهما على ارتفاعات جديدة في أسعار الطاقة والمواد الغذائية؛ وهو ما قد يزيد احتمالات حدوث حالة من الفوضى في النظام الدولي، واندلاع حروب إقليمية ستجر العالم كله نحو مزيد من الترنُّح، والانزلاقات، والمصير المجهول.
الآثار الاقتصادية للأزمة
في ظل هذه الظروف أصبح العالم -بلا شك- على عَتَبات مرحلة تاريخية، في وقت يطول فيه تأثير الأحداث العالمية جميع المكونات والطبقات الاجتماعية بكل مكان في العالم من دون استثناء؛ فمستوياتُ التضخم في أوجها، وتفرض بطبيعتها تحديات مركبة لن تقتصر على ترك الندوب؛ بل سرعان ما قد تتحول إلى معاناة أشد إيلامًا. وإضافةً إلى ذلك؛ فإننا نلحظ انحسار رؤوس الأموال، وتحفُّظ الاستثمارات الدولية، وتضاؤل الفرص الاقتصادية، وارتفاع مستويات الفائدة الذي يعني مزيدًا من الخَنْق للأنشطة الاقتصادية، وإضعاف الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتراجع دخل الفرد والحالة المعيشية، وتهالك المدّخرات الفردية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما المآلات القاسية لِمَا قد يَجري في أسواق الاقتصادات النامية والناشئة، ولا سيَّما في المنطقة العربية التي يُوصَف أكثر من نصف دولها بالهشَّة؟ وما مدى قدرة شرائحها الضعيفة على تحمُّل هذه المنزلقات؟ إن ما يمكن الجزم به هو أن استمرار الحرب، أو اتساع رقعة هذه الصراعات، سيُفضيان بحسب أيسر التوقعات إلى القضاء على الملايين، جوعًا أو قتلًا؛ وقد ترتفع الحصيلة إلى ما لا تُحمَد عقباه إذا اشتدَّ الصراع العالمي، وتحوَّل حربًا كونية يدخل فيها الاقتصاد العالمي في دهاليز لن يكون الخروج منها سهلًا، بل سيكون عندها بقاء الجنس الإنساني وحضارته على المحك.
الرواية المتفائلة (اتفاقية سلام)
تشير الرواية المتفائلة لدى بعض المراقبين إلى أن تصريحات بوتين ليست إلا مراوغة إعلامية يحاول فيها تبرير العملية العسكرية، وتهدئة الداخل الوطني في ظل الخَنْق الدولي للاقتصاد الروسي، متوقِّعين أن يتبع ذلك تهدئة، وأن تنجلي آثار التصعيد الروسي على الأسواق والاقتصاد العالمي تدريجيًّا في غضون الأسابيع القليلة المقبلة. ويدعم هذا السيناريو خروج كِلا الطرفين بما يرضيهما؛ إذ سيلعب إعلام كل طرف على نغمة النصر؛ فالروس إن استمروا في خططهم المعلَنة، فسيحصلون على أربع ولايات غنية بالموارد الطبيعية ومطلة على البحر الأسود، وربما يكتفي الأوكرانيون بتحرير مناطق شاسعة في الشمال الشرقي بإقليم خاركيف؛ وقد يشجع هذا التوازن كِلا الطرفين على قبول وقف إطلاق النار، وعقد اتفاقية سلمية تبرر وقف الأعمال الحربية.
وفي السياق نفسه؛ فإن السيناريو الآخر المحتمَل هو استمرار الحرب ومعارك الكر والفر، والانتصارات الجزئية الميدانية؛ ولكنْ بإطالة أمد الحرب سيكون “النسر الأمريكي” قد حقق أهدافه بإضعاف قوة “الدب الروسي” وتحجيمه من جهة، وتضييق الخناق على “التنين الصيني” من جهة أخرى، وبينهما الأوروبي الذي ستُنهكه تداعيات الحرب مدَّة طويلة؛ في حين أن الاقتصاد الأمريكي سيحافظ على هيمنته -ولو بعض الوقت- ولن يكون أمام الاقتصاد العالمي سوى التكيُّف مع المجريات؛ أي أن العالم قد يكون أمام انتعاش اقتصادي قوي في السنوات الخمس المقبلة بأقصى تقدير.
سيناريو الخروج الآمن
ما زلنا نرى أن على عقلاء العالم أن يراجِعوا أسباب تلك الحرب، وأن العِناد، والتصعيد المتدرج والمتبادَل إلى ما لا نهاية من قِبَل الأطراف المتصارعة شرقًا وغربًا، لن يقودا إلى خير أبدًا، وأن التوقعات ستنحصر في الأسوأ تبعًا لكل مُنزلَق يسقط فيه المتصارعون. وهنا يجب أيضًا توقُّع أن يعلو صوت العقلاء والمنطقيين في هذه المرحلة؛ ليُنادِي بحل عادل لجميع الأطراف يُعزِّز قبول الطرفين الروسي والأوكراني التهدئةَ، والرضا بانتصارات ونجاحات جزئية لكل منهما.
ومن هذا المنطلق؛ فإنه يمكن مع هدوء الأوضاع وتوقف القتال أن نتوقع -بعد مدَّة اختبار معقولة لاستقرار السلام-؛ بل نكتشف أن ارتفاع أسعار الفائدة، وانكماش الأسواق، قد أدَّيا إلى نتيجة مهمة هي تراكم ثروات كبيرة ليست مُفعَّلة ولا مستثمَرة. وهنا -كما تقول كلاسيكيَّات الاقتصاد المعاصر- سيُغري التخفيض اللاحق لأسعار الفائدة بإعادة توظيف الأموال المدخرة في الأسواق مباشرةً في شكل مشروعات إنتاجية كبيرة؛ لتستوعب العمالة، وتخفض البطالة، وترفع حجم الإنتاج؛ ما يخلق منافسة تؤدي إلى انخفاض الأسعار، ومزيد من الانتعاش الاقتصادي، في مقابل ما كان من انكماش وكساد. وقد يستغرق هذا السيناريو التصحيحي مدة تتراوح بين عامين وأربعة أعوام فَوْر توقُّف الأعمال القتالية، وحلول الهدوء والسلام.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |