مقالة: الاقتصاد الرقمي.. الانتشار المتسارع وضرورة مواكبة المتغيرات

...
التاريخ: 18 - 10 - 2022

أبو ظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د. علي محمد الخوري

باتت التطورات الرقمية المتسارعة والمذهلة، والشهيَّة العالمية التوَّاقة إلى مزيد من الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية -بصفتها آليات للتنمية والتنافسية- تدفع المؤسسات والحكومات إلى تبني التحول الرقمي على نطاق واسع وشمولي؛ وهي الاستراتيجية التي أصبحت تتصدَّر أولويات مرحلة التطور والتقدم السريع في عالمٍ غَدَا لا يفهم أو يتطور إلا بلغة البيانات والأرقام.

وفي ظل السرعة المنقطعة النظير للتحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، أصبحت التكنولوجيات الحديثة تمثل عوامل فارقة لا يمكن إغفالها من حيث الإمكانيات التي تقدمها في سرعة الاتصال، فضلًا عن جودة الناتج ودقّته الفائقتين والقياسيتين؛ فقد أنشأت شبكات الإنترنت والعالم الافتراضي نماذج اقتصادية وعمليَّة غير مسبوقة تجمع الأفراد، والشركات، والآلات للعمل في أطرِ عمل أصبحت تؤثر في المكونات الجغرافية والسياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وتُغيّرها.

وأصبح مصطلح “الاقتصاد الرقمي” الأكثر ترددًا في الإيكولوجية الاجتماعية والاقتصادية العالمية، ويمكن تلمّسه في واقع المنصات الرقمية التجارية والحكومية والمؤسسات العالمية وبنيتها. وقد أسهم ظهور فيروس “كوفيد-19” وانتشاره في إحداث مزيد من تجذر هذا النوع من الاقتصاد والاهتمام به؛ بهدف إيجاد بدائل تشغيلية لنماذج الأعمال تتكيَّف مع الوضع الوبائي الجديد المقيِّد للحركة.

ونرى اليوم أن “الاقتصاد الرقمي” لم يعُدْ يكتفي بما كان يَعِد به من توفير مزيد من الخدمات الذكية في قطاعات حيوية مثل العمل، والتعليم، والصحة، والتجارة، وغيرها؛ بل تعدَّى ذلك إلى إحداث تغييرات ثورية في المفاهيم والممارسات وسط توسع الفكر الشبكي، وانتشار المعلومات المجمعة من حركة المعاملات الرقمية وضخامتها، التي كلما زادت نقاط الاتصال ضمن هذه الشبكة؛ فإنها تتضخَّم على نحو متسارع (Exponential Growth).

ويدفع مصطلح” الاقتصاد الرقمي” بمفاهيم اقتصادية – تكنولوجية معتمدة على توظيف شبكة الإنترنت لدعم “الانتشار الواسع” والسريع للشبكات والمنصات الرقمية بصفتها مسرعات لعمليات التنمية، وتقديم الخدمات، وتوفير فرص العمل، والوصول إلى أسواق جديدة، وتشجيع الاستثمارات، واستقطاب رؤوس الأموال. ونلاحظ أن تنامي المنصات الرقمية الكبيرة، التي أصبحت تتسع وتجمع ملايين المشتركين والمستفيدين والمزودين للخدمات، لا يسهم في تنامي المعاملات الاقتصادية فقط، وإنما يجعلها أكثر كفاءة وأقل تكلفة، بل يعمل على تزايد المنافسة بين مزودي الخدمات والمصنعين؛ وهو ما يصب في المصلحة العامة بنهاية المطاف، ويخدم عدداً من المستهدفات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في آن واحد.

وبلغة الأرقام، بحسب التقارير والدراسات الدولية وتوقعات الخبراء، سيصبح 65 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مُدارًا بصورة رقمية قبل نهاية عام 2022. وتُظهِر الإحصائيات في هذه التقارير إقبال المؤسسات الكثيف على الاستفادة من الشبكات الرقمية، ولا سيَّما مع ارتباط ما يزيد على خمسة مليارات نسمة من سكان العالم بأجهزتهم المتصلة بالإنترنت في حياتهم اليومية و”إدمانها”، وهذا العدد يتزايد يومًا بعد يوم مع دخول جيل الألفية  معترك الحياة العملية؛ حيث تتداخل هذه العوامل مع بعضها بعضاً مكونةً “القيمة الاقتصادية” بمفهومها الجديد والثوري في العالم الرقمي، الذي يتوقع أن يستمر في مفاجأتنا بابتكارات وإبداعات علمية وتقنية في هذا الميدان المتحول.

ويبين واقع الأمر أن “الاقتصاد الرقمي” أصبح يدفع بمفاهيم ومتغيرات جذرية في مضمون “القيمة الاقتصادية” التقليدية، بدءاً من الصفة والقيمة المجردة للسلع والخدمات المادية، إلى مدى القدرة على الوصول إلى “البيانات والمعلومات” حول المجتمعات الإنسانية، وجَمْعها وتحليلها، عن طريق تفاعلات هذه المجتمعات على الشبكات الرقمية؛ ما يُمكِّن من الدفع بمكونات اقتصادية جديدة نتيجةً للابتكار والنمو الرقمي.

ولم تعُد “القيمة الاقتصادية” في المجتمعات الرقمية تعتمد على الأصول الفكرية في عالم الاقتصاد الكلاسيكي فقط؛ بل أصبحت تعتمد على أُسس افتراضية مثل العملات الرقمية اللامركزية، والساحات الافتراضية مثل ميتافيرس الذي يُحاكي العالم البشري، والتقنيات الثورية مثل (NFT) والبلوك تشين لتسجيل الأصول الرقمية وتوثيقها.

ويعتمد “الاقتصاد الرقمي” على أنظمة تحركها وتنظمها “المعرفة” ، ومسرعات تعمل على انتشار المعلومات، وقدرات آلية لقياس مدى التأثير في المحيط الرقمي وتنفيذه. وكما نعلم يقينًا؛ فإن عنصر “إدارة المعرفة” وتكوينها لا يزال مجالًا غير ناضج في المنطقة العربية؛ بل إنه السبب الرئيسي لتقدم الدول العربية البطيء في مؤشراتها الاقتصادية والاجتماعية منذ عقود.

وما يستوجب انتباه راسمي السياسات هو أن مفهوم “الاقتصاد الرقمي” يمكن أن يسهم ببناء قدرات جديدة في الدول العربية تساعدها على إحداث قفزات تنموية قد لا تكون متاحة من دونها، في ظل اشتداد حدة المنافسة والصراعات العالمية؛ فمحور التكنولوجيا لم يعُد من الممكن غض الطرف عنه؛ لأنه ببساطة يهدد استقرار مرتكزات الأمن الاجتماعي والاقتصادي على المستويَيْن الوطني والإقليمي، وإضعاف أنظمة الحكم ودور الدولة.

ونقطة البداية -كما أشير إليها دائمًا- يجب أن تكون مؤسَّسة على التعاون الإقليمي المشترك في المنطقة؛ لإعادة بناء الدول العربية، ولا سيَّما في مجالات تعزيز البناء المعرفي للإنسان، وتطوير البنى التحتية والخدمات الرئيسية، والوصول إلى رؤوس الأموال -المُمكّنة من إطلاق المشروعات التنموية، وتجسيد الابتكارات وتحويلها واقعًا منتجًا- ومن ثَمَّ تهيئة مزيد من فرص العمل؛ ولكنَّ ذلك يتطلب تزامن الإرادة مع الفهم العميق المتجذر في مضمون إيكولوجية التطور، وليس التعامل الشكلي مع التحولات العالمية التي أصبحت مثل أعاصير هادرة لن يستطيع أن يقف في وجهها إنسان أو مجتمع، كبيرًا كان أو صغيرًا، ومهما بلغت قوته.