أوروبا بين تحديات التضخم والبطالة والفقر

...
التاريخ: 05 - 01 - 2023

المصدر: مفكرو الإمارات

أبوظبي

أ.د. علي محمد الخوري

ارتفعت معدلات التضخم والبطالة ونسَب الفقر ارتفاعًا لافتًا للنظر بدول أوروبا في العامين الماضيين؛ نتيجة عوامل عدَّة تضافرت معًا وفاقمت أزمات القارة العجوز، منها جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية-الأوكرانية التي اندلعت قبل نحو 11 شهرًا -وقد تستمر سنوات- إضافة إلى توقعات الركود العالمي؛ ما قد يُضعف قدرات دول التكتل الأوروبي التي أصبحت تواجه مخاطر اقتصادية واجتماعية تاريخية ربما تجر اقتصاداتها والاقتصاد العالمي إلى منزلقات جديدة.

وبالتوازي مع مجريات الأحداث العالمية نجد أن الأسواق الأوروبية شهدت ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار السلع الأساسية؛ نتيجة زيادة أسعار الطاقة ومشتقاتها، التي دفعت الحكومات إلى تحمُّل نسبة منها لتخفيف الأضرار في القطاعات المختلفة.

وأسفر هذا المسار التصاعدي للتضخم عن توقف مئات المصانع في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وهولندا وإيطاليا عن العمل؛ فزادت نسب البطالة زيادة ملحوظة، وارتفعت تكاليف المعيشة اليومية؛ ما أدَّى إلى غضب شعبي في المجتمعات الأوروبية، واندلاع تظاهرات في كثير من المدن التي لم تعُد حلقات الإنتاج فيها تدور كما كانت في السابق.

أسوأ موجة ارتفاع أسعار في أوروبا

إجمالًا تواجه الأسواق الأوروبية موجة ارتفاع أسعار هي الأشد والأسوأ في التاريخ الحديث؛ إذ لم تقف عند إغلاق كثير من المصانع فقط؛ بل أدخلت فئات عدة من الشعب تحت خط الفقر أيضًا، مع انخفاض القدرة الشرائية لكثير منهم، ومكابدتهم من أجل تأمين حاجاتهم اليومية.

وتُظهر الأرقام والإحصائيات العالمية حقائق مرعبة منها أن نحو 35 مليون شخص في القارة الأوروبية أصبحوا غير قادرين على دفع فواتير التدفئة في منازلهم، وباتوا بين خيارين؛ إمَّا الحصول على الطعام، وإمَّا توفير التدفئة؛ وقد تضطر الحكومات الأوروبية إلى تقديم دعم إضافي، وتحمُّل مزيد من التضخم لحماية الفئات الأكثر حاجة في مجتمعاتها. وتوضح تقارير أن أكثر من 15 مليون أوروبي أصبحوا تحت مظلة بنك الأغذية التابع لصندوق المساعدات الأوروبية؛ ويُعد ذلك سابقة في تاريخ القارة الأوروبية التي لم تشهد مثل هذه المعدلات منذ خمسينيات القرن الماضي.

وأعلنت المفوضية الأوروبية في تقرير لها أن نسبة الفقر في بلغاريا ارتفعت إلى 11.5 في المئة، وهي العُليا في تاريخ أوروبا، وبلغت في اليونان 10 في المئة، وفي بولندا 9 في المئة، وهي معدلات غير مسبوقة أيضًا.

كما سجَّلت نسب التضخم في دول مثل ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا معدلات جديدة؛ إذ بلغت في ألمانيا بنهاية أكتوبر الماضي 11.5 في المئة، ووصلت في إنجلترا بنهاية عام 2022 إلى 10 في المئة؛ وارتفعت في إيطاليا بنهاية نوفمبر الماضي إلى 8.5 في المئة، في حين بلغت في فرنسا بنهاية سبتمبر الماضي 7.5 في المئة؛ وتُعد هذه النسب هي العُليا في التاريخ الحديث لهذه الدول، أو منذ الحرب العالمية الثانية في الأقل. وبحسب خبراء اقتصاديين؛ فإن هذه النسب تعني أن نحو 11 مليون فرد في الدول الأربع يعيشون تحت خط الفقر، ويجدون صعوبة في تلبية حاجاتهم اليومية.

ولا تتوقع البنوك المركزية في الدول الأوروبية تحسُّن نسب التضخم قبل عام 2024، بافتراض حل الأزمة الروسية-الأوكرانية، وعدم وقوع جوائح جديدة، في وقت تحاول فيه حكومات أوروبا توفير ما تحتاج إليه من مصادر الطاقة من أجل استئناف تشغيل المصانع المتوقفة، وعودة الحياة إلى طبيعتها، ولكنَّ هذا الأمر ربما يستغرق سنوات؛ ويبقى التحدي الكبير متمثلًا في توفير إمدادات الطاقة والحاجات الأساسية في هذا الشتاء الذي قد يكون الأصعب في تاريخ القارة.

مستقبل ضبابي في أوروبا

تفيد تقارير البنك المركزي الأوروبي بأن الدول الأوروبية ستستهدف بيع أكثر من 500 مليار يورو من السندات الحكومية، وقد تلجأ بالضرورة إلى رفع أسعار الفائدة لجذب الاستثمارات؛ ما يؤدي إلى ارتفاع نسب التضخم وتكاليف الاقتراض في المجتمعات الأوروبية، ويدفع إلى مزيد من الانكماش في أنشطتها الاقتصادية.

واقترح خبراء اقتصاديون إجراءات أخرى قد تكون قادرة على حماية اقتصادات الدول الأوروبية، وتقليل آثار التضخم في مجتمعاتها، مثل توسيع دائرة الحماية الاجتماعية، ودعم المصانع المتوقفة، وإيجاد أسواق بديلة للغاز الروسي؛ ولا شكَّ في أن هذه الإجراءات مرهونة بالقرار السياسي في تلك الدول، وستبقى رهينة في محبسها حتى انتهاء الحرب الروسية-الأوكرانية في الأقل من جهة، وزوال التوترات القائمة في مناطق التزويد الأساسية للموارد العالمية الاستراتيجية من جهة أخرى، ثم إعادة بناء المنظومة الاقتصادية في الدول الأوروبية لتعويض خسائر الإنتاج والتراجع الاقتصادي، التي تكبَّدتها منذ ظهور جائحة كوفيد-19.

ومن المؤكد أن الحكومات الأوروبية ستواجه تحديات عدَّة بالغة الصعوبة في الأعوام المقبلة، وسط سيناريوهات عالمية غير واضحة لما قد تؤول إليه الأمور، ولا سيَّما مع استمرار انغماس المعسكر الأوروبي في مستنقع الحرب الروسية-الأوكرانية. ومن المحتوم أن فاتورة هذه الحرب وما بعدها ستتحمَّلها دول أوروبا، وستظل تُلقي بظلالها على اقتصاداتها المُنهكة مدَّة طويلة جدًّا.

ويُتوقَّع أيضًا أن تواصِل الديون في الدول الأوروبية الارتفاع، ولا سيَّما أن السياسات النقدية والمالية ستركز على إيجاد حلول سريعة لأزمة الطاقة في وقت تشهد فيه المنطقة الأوروبية تغيرات مناخية شديدة، وموجات صقيع، وانخفاضًا في درجات الحرارة.

وبرغم سعي الحكومات الأوروبية إلى إعادة التوازنات المالية؛ فإن التقلبات في أسواق المال والسلع الأولية العالمية، وخاصة المواد الغذائية، ستظل تضغط سلبيًّا من الجهة المضادة؛ في حين تعرّض هذه التجاذبات والصعوبات المجتمع الأوروبي لضغوط متصاعدة قد تظهر آثارها في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، ولا سيَّما في كثير من الدول العربية والإفريقية التي لن تكون في مأمن من حدوث تراجع حاد في معدلات نمو اقتصاداتها أيضًا؛ وهو ما يجب الاستعداد له بمزيد من الإجراءات الاقتصادية التي تجذب الاستثمار والإنتاج، وتشجعهما؛ فهذا ليس وقت الادخار، ولا الضرائب، ولا القيود الاقتصادية.