التحول في موازين الثقل الاقتصادي إلى إفريقيا والخليج العربي

...
التاريخ: 08 - 08 - 2023

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د.علي محمد الخوري

 

في الوقت الذي تكافح فيه الاقتصادات الأوروبية آثار تغير المناخ وأزمات الطاقة وانعكاسات التوترات الدولية المتصاعدة، تشهد منطقتا إفريقيا والخليج العربي تحولاتٍ كبيرةً تشير إلى احتمالات تحول في الموازين الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية لمصلحتهما؛ فالاحتياطيات الوفيرة من الموارد الطبيعية، إلى جانب معدلات النمو الاقتصادي الملحوظة في دول المنطقتين، تجعلها مراكز محتملة للأنشطة الاقتصادية العالمية في المستقبل القريب؛ ما يستوجب انتباه راسمي السياسات للنظر إلى تداعياته، ومن ثم تطوير الخطط المعززة للانتقال السلس وضمان مستقبل اقتصادي مستدام. دعونا نرى هذه الصورة بمزيد من التفصيل.

التغير المناخي والموازنات التريليونية لمواجهة أزمة الطاقة في أوروبا

تشير توقعات الاقتصاديين إلى عوامل كثيرة قد تُسهم في هذا الانتقال المحتمل؛ ومن أهمها التغيرات المناخية الكبيرة التي شهدتها أوروبا، المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة إلى 48 درجة مئوية، وأدت إلى موجات من الجفاف الشديدة التي لم تحدث منذ ألف عام، إضافة إلى انخفاض مياه الأمطار عن معدلاتها في الأعوام السابقة، ونشوب حرائق الغابات الواسعة، وانكماش الأنهار، وتقلص إمدادات المياه الجوفية؛ ما اضطر بعض الحكومات الأوروبية إلى اتخاذ إجراءات صارمة، مثل إغلاق المواقع السياحية، وحظر غسيل السيارات وري الحدائق العامة، إلى جانب خطط لتقنين الغاز الطبيعي، وإعادة تشغيل محطات الفحم.

وكانت وكالة الفضاء الأوروبية قد حذرت في وقت قريب من أن موجة الحر ستصل إلى معظم أجزاء أوروبا، مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا، وصولًا إلى بريطانيا. وتشير الإحصاءات الأوروبية إلى أن نسبة الوفيات المرتبطة بتأثير درجات الحرارة الصيفية المرتفعة قد زادت، لتصل إلى ما يقرب من 62 ألف حالة وفاة في أنحاء أوروبا عام 2022. ولا يقتصر التأثير المناخي على الأثر المباشر للحرارة، فالاحتباس الحراري سيُفضي إلى تفشي مزيد من الأمراض والأوبئة، مثل الملاريا وحمى الضنك، وتقلّص الموارد، ويمثّل تهديدًا مباشرًا لحياة الإنسان الأوروبي.

من جهة أخرى، فإن أزمة الطاقة في أوروبا تعد قضية مهمة أخرى أصبحت تهدد بركود اقتصاده بل وفي ظهور تحديات أمنية لم تعرفها القارة العجوز منذ عقود. فالحرب في أوكرانيا تسببت بإيقاف مشاريع الطاقة النظيفة منخفضة التكلفة وانتهاء عصر الاعتماد على البترول والغاز الروسي بأسعاره الزهيدة والرخيصة، والتي كانت من أهم مصادر ثراء أوروبا خلال العشرين عام الماضية. فمع ارتفاع أسعار مصادر الطاقة العالمية، وعدم قدرة حكومات الاتحاد الأوروبي على توفير مصادر الطاقة الرخيصة، لجأت الحكومات إلى وضع موازنات ضخمة لحماية الأُسر والأعمال التجارية من تداعيات الارتفاعات الكبيرة في أسعار الطاقة. وقد بلغ مجموع ما خصصته حكومات مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا أكثر من نصف تريليون يورو لتأمين احتياجات البلاد من الطاقة بعد توقف عشرات المصانع وارتفاع نسب البطالة إلى مستويات غير معهودة.

وعلى الرغم من الحزم الاقتصادية التي وضعتها الحكومات الأوروبية لتوفير مصادر الطاقة المرتفعة، ولا سيّما الغاز الطبيعي؛ فإن أزمة الطاقة، بحسب آراء المختصين، قد تستنزف ما بين 6% إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي؛ ما يمثّل عبئًا كبيرًا جدًّا على هذه الاقتصادات، في ظل معدلات النمو المنخفضة الناتجة من الصراعات والأزمات العالمية. وتبعًا لذلك يمكن أن تؤدي هذه الأعباء المالية، مقرونةً بآثار تغير المناخ في القطاع الزراعي، إلى إضعاف الاقتصاد الأوروبي، وزيادة الحاجة إلى الاقتراض، أو زيادة الضرائب، أو حتى طباعة النقود.

كما أن مجريات الأحداث في مجملها تُشير إلى أن هذه الأزمات المُركّبة قد تعصف بدعائم الاستقرار في أوروبا مع ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم وتردّي الأحوال المعيشية، ووسط ما تشهده حقًّا من اندلاع الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية المعترضة على السياسات الحكومية، والأصوات المنادية برفع العقوبات المفروضة على روسيا. وباختصار شديد، الصورة ليست وردية في أوروبا إحدى أهم قلاع الاقتصاد العالمي اليوم.

المشهد الآخر في الخليج وإفريقيا

لو اتجهنا جنوبًا، سنجد أن منطقتي الخليج العربي وإفريقيا تشهدان نهضة شاملة، وإن كانت متفاوتة، مع اعتماد دولهما سياسات تنموية متماسكة ومستدامة باتجاهات استراتيجية وتطلعات مستقبلية، وبصفتها لاعبة رئيسية في الاقتصادي العالمي.

ونبدأ بالدول الخليجية التي تمر بمسيرة نهضوية شاملة، وتتميز بنمو قطاعاتها الاقتصادية والتعليمية والعقارية والزراعية والصناعية. وهذا التقدم، الذي يُستكمل بنقل التكنولوجيا في مختلف المجالات الاقتصادية والخدمية، سيُسهم في نقل الدول الخليجية من دول نامية غنية بالموارد إلى اقتصادات متنوعة، ومن ثم تقليل اعتمادها على استثمارات الطاقة وحدها.

كما تشهد دول الخليج تصاعدًا غير معهود في مستوى الأمطار الشتوية في السنوات الأخيرة، فضلًا عن تكوّن الأودية الخضراء المورقة، والبحيرات والأنهار من المياه الجوفية العذبة في رمال الربع الخالي والصحاري والمناطق الجافة. وتوضح هذه الظواهر المناخية التحولات البيئية اللافتة التي تشهدها شبه الجزيرة العربية، وسط توقعات باستمرار الحالة المطرية ومعدل الاخضرار والحياة البرية. وقد يعني هذا التحول المناخي هجرة سكانية عكسية للاستقرار في الدول الخليجية التي ستنعم برقعة خضراء أوسع، وأغطية نباتية في المناطق الصحراوية، ومزيد من حقول المياه الجوفية، ونسب أقلّ من التلوث الهوائي، وسيكون ذلك منعطفًا مهمًّا في المشهد الاقتصادي العالمي.

وعلى نحو مماثل للدول الخليجية، فإن الاحتياطيات الوفيرة من المعادن والنفط والموارد الطبيعية الضخمة في قارة إفريقيا قد تؤدي إلى تحويل القارة السمراء قوةً سوقيةً كبيرةً ورائدة؛ فبينما تكافح أوروبا نقصَ مصادر الطاقة، فإن الموارد الطبيعية الوفيرة والتغيرات المناخية تمنح إفريقيا وشبهَ الجزيرة العربية الأفضليةَ الزراعيةَ، وتجعلهما بدائلَ للاعتماد الاقتصادي العالمي.

ووفقًا لتقرير صادر عن بنك التنمية الإفريقي لعام 2022، حافظت 53 دولة إفريقية من أصل 54 على نمو إيجابي بالرغم من تداعيات وباء كوفيد-19؛ ما يُظهر مرونة اقتصادات القارة. وتملك إفريقيا، التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليار نسمة (40% منهم من الشباب) ما نسبته 12% من احتياطيات النفط العالمية، واحتياطيات ضخمة من المعادن النفيسة، مثل الذهب والبلاتين والكوبالت. ويُذكر أن 12% من النفط المنتج عالميًّا يأتي من إفريقيا، ويتركّز إنتاجه في نيجيريا وليبيا وأنجولا ومصر والجزائر؛ وتنتج هذه الدول 12 مليون برميل يوميًّا، ويُصدّر إلى أوروبا وأمريكا.

وتعد دولة جنوب إفريقيا أكبر دولة منتجة لمعدن الذهب في إفريقيا، يعقبها بنين والمغرب وجامبيا. وتنتج دول القارة ما يقرب من ثلثي معدن الكوبالت النفيس بالعالم، الذي يتركز بجمهورية الكونغو الديمقراطية، كما تعدّ القارة أكبر منتجي الأخشاب عالميًّا، وتأتي من الكاميرون، والجابون، وتوجو وليبيريا، وساحل العاج، وغانا، ونيجيريا، والكونغو؛ وتُصدّر إلى الصين وإنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، كما تملك القارة كثيرًا من المعادن النفيسة التي تجعلها من أغنى قارات العالم.

ويجعل الموقعُ الاستراتيجي القارةَ فريدةً من نوعها؛ إذ يحدُّها شمالًا البحر الأبيض المتوسط، وجنوبًا المحيط الأطلنطي، وغربًا المحيط الهادي، وشرقًا البحر الأحمر؛ وتملك مساحة أراضٍ زراعية صالحة للزراعة تقرب من 600 مليون هكتار قادرة على إطعام العالم؛ ما يؤهلها لتكون مستقبل اقتصاد العالم في وقت قريب.

وإجمالًا، مع إدراك الدول الخليجية والإفريقية أهميتها الجيواستراتيجية وثقلها الاقتصادي، فمن المتوقع أن يزداد تأثيرها على المستوى الدولي، وتأخذ موقعًا في النظام العالمي بصفتها قُوًى تنافسيةً جديدة.

اعتبارات السياسة والتوجهات المستقبلية

بالنظر إلى التحولات الاقتصادية والتغيرات المناخية، ينبغي لراسمي السياسات إدراك أهمية الاستراتيجيات التي يمكن أن تستجيب للسيناريوهات المستقبلية المحتملة، وتوقّع التحديات في مشهد التحول الاقتصادي، والاستعداد لمواجهتها؛ وتحتّم هذه التحوّلات على راسمي السياسات في المنطقة العربية دراسة التأثير المحتمل في اقتصاداتها، والعمل استباقيًّا للوصول إلى البدائل والحلول الممكنة في مجالات مختلفة.

ومن بين هذه المجالات: أولًا، تعزيز هياكل الاقتصاد البيئية الوطنية والسياسية والتنظيمية، بنحوٍ متوازن ومتناغم؛ فالشركات والاستثمارات الأجنبية تبحث عن بيئات آمنة تعطي فيها الحكومات الأولوية للاستقرار السياسي، وهياكل الحوكمة المعززة للشفافية وبناء الثقة، والفارضة لسيادة القانون ومنع الفساد؛ إضافة إلى الأيدي العاملة الماهرة، وبيئة الحياة المتقبِّلة للآخر بنحوٍ مسالم؛ فضلًا عن البنية التحتية، مثل الطرق، والطاقة، والمياه، والإنترنت.

وثانياً، الإصلاحات الاقتصادية التي تتطلب التركيز على إيجاد بيئات ملائمة للأعمال التجارية تشجع الابتكار وريادة الأعمال. والتركيز هنا يجب أن يشمل تطوير أطر تنظيمية تتميز بالوضوح والفاعلية، وتحد من البيروقراطية، وتقدم الحوافز إلى الشركات، وتساعد الاستثمار في القطاعات الرئيسية مقل التكنولوجيا والتصنيع والخدمات، وتٌسهم في تنويع الاقتصادات، وتقليل الاعتماد على الموارد الطبيعية.

والمجال الثالث مرتبط بتطوير البنى التحتية الحيوية للنمو الاقتصادي، مثل شبكات النقل والمرافق والاتصالات السلكية واللاسلكية، وتلك المرتبطة بكيفية توجيه الأمطار والسيول وتخزينها واستغلالها لتكون نصيباً مضافاً من المياه. ولا بد أن ترتبط المسارات هنا بالاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية؛ لتنمية رأس المال البشري بنحو يعزز الإنتاجية، ويسهل التجارة، ويحسن مستويات المعيشة.

أما المجال الرابع، فهو الإدماج والعدالة الاجتماعية؛ لضمان مواءمة السياسات للنمو الاقتصادي الشامل والمفيد لجميع شرائح المجتمع. ويجب أن تهدف الجهود هنا إلى تقليص الفوارق في الدخل، وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي، بصفتها مفاتيح لضمان النمو المستدام.

والمجال الخامس هو الاستدامة البيئية؛ فبالنظر إلى التأثيرات الكبيرة لتغير المناخ يجب على صانعي السياسات تأكيد تنمية اقتصاداتهم بنحوٍ مستدام؛ بتكثيف الاستثمارات في موارد الطاقة المتجددة، وتعزيز التقنيات الخضراء، وتبنّي السياسات الكفيلة بحماية البيئة والتنوع البيولوجي.

وبينما يعج المشهد العام بالتحديات المعقدة التي يجب مواجهتها، ستبقى الفرص تدق أبواب الدول الخليجية والإفريقية لتسخير أفضل لثرواتها من الموارد الطبيعية، والمواقع الجغرافية الاستراتيجية، والتركيبة السكانية للشباب، والتي تتطلب بأبسط القول سياسات مبتكرة تدعم مستقبل مزدهر وقادر على الصمود.