الذكاء الاصطناعي في الدول الخليجية: الواقع والطموحات

...
التاريخ: 02 - 08 - 2023

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د.علي محمد الخوري

يعِد الانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي بدفع الاقتصادات العالمية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة؛ وما تؤكده الدراسات هو أن قطاعات، مثل الرعاية الصحية، والتمويل، والتعليم، والطاقة المتجددة، والبحث العلمي، ستكون من بين أكبر القطاعات المستفيدة، وستشهد مستويات جديدة من الابتكار والكفاءة والإنتاجية، إلى جانب تحولات تغييرية كبيرة ستقودها محركات الثورة الصناعية الرابعة، وعلى رأسها آلات الذكاء الاصطناعي. وبحسب تقرير صادر عن شركة “برايس ووترهاوس كوبرز”؛ فإن الإسهام المحتمَل للذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي قد يصل إلى 16 تريليون دولار بحلول عام 2030؛ وذلك يبيّن الاهتمام المتنامي للدول الخليجية، واستثماراتها التكنولوجية الملياريَّة بصفتها وسيلة رئيسية للاستفادة من قدرات هذا القطاع، وتحفيز انتقال اقتصاداتها إلى عصر ما بعد النفط.

الإمارات وإعادة تشكيل مسارات التنمية

تتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة ثورة الذكاء الاصطناعي في المنطقة العربية، برؤية استراتيجية واضحة، واستثمارات قوية؛ وتتميز بكونها حاضنة عالمية للابتكار؛ ويَبرز ذلك في جهودها على صعيد تطوير التشريعات والنظم التوجيهية الساعية إلى توفير الفرص للشركات الناشئة من أجل إيجاد حلول مبتكرة بتقنيات الذكاء الاصطناعي. ومن بين خطوات الدولة الاستباقية استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي التي أطلقتها في عام 2017؛ بهدف الارتقاء بالأداء الحكومي، وتسريع الإنجاز، وإنشاء بيئات عمل مبتكرة قائمة على الذكاء الاصطناعي، إلى جانب إيجاد القيمة الاقتصادية المضافة في قطاعات مختلفة.

ويتجسَّد طموح دولة الإمارات واهتمامها بتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في استثمارات الأنظمة الروبوتية، مثل الاستثمار في تقديم خدمات المركبات والطائرات الآلية ومستهدفاتها لتحويل 25 في المئة من وسائل النقل إلى القيادة الذاتية بحلول عام 2030؛ كما تعمل دولة الإمارات على توظيف الذكاء الاصطناعي في التخطيط الحضري وتنمية المدن؛ وقد ظهر ذلك في مدينة إكسبو بدبي، التي يبلغ حجمها ضعف حجم إمارة موناكو، بصفتها منارةً عالمية للذكاء الاصطناعي، مدعومة ببنية تحتية رقمية متقدمة معتمدة على شبكة الجيل الخامس.

الرؤية التقدمية للمملكة العربية السعودية

تملك المملكة العربية السعودية طموحات مماثلة؛ إذ جعلت الذكاء الاصطناعي في صميم رؤيتها للمستقبل. وتخطط المملكة لاستثمارات كبيرة تصل إلى نصف تريليون دولار في مشروعها “نيوم”، وهو مدينة حديثة تقع على البحر الأحمر. ومع توقُّع أن يصل عدد ساكني هذه المدينة إلى ما يقارب مليون نسمة، تطمح السعودية إلى تجسيد نمط حياة مستقبلي، وتسهيل الخدمات بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، و”الميكنة” الذاتية، وتقليل التدخل البشري إلى الحد الأدنى؛ وتنوي تمكين سيارات الأجرة الطائرة في خطة تقتضي اعتماد نظام نقل جوي صديق للبيئة، وتضيف مثالًا واقعيًّا على رؤية المملكة الجريئة لدمج الذكاء الاصطناعي بالمجتمع البشري.

التحديات والفرص في تكامل الذكاء الاصطناعي

لا شكَّ في أن التبني الحماسي للذكاء الاصطناعي ستنجم عنه تحديات كبيرة أبرزها الاستغناء عن الوظائف، وكذا المخاوف المرتبطة بخصوصية البيانات، والاعتبارات الأخلاقية، والحاجة إلى إطار تنظيمي سليم يضمن تحقيق الرؤى والمستهدفات. وتحتاج دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في هذا الشأن إلى الموازنة بين مساعيها التنموية القائمة على القدرات التكنولوجية واستراتيجيات التعامل مع هذه القضايا؛ وذلك يستوجب إعداد سياسات ديناميكية شاملة لضمان الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي مع تقليل المخاطر والعيوب المحتمَلة.

اتجاهات دول مجلس التعاون والاتجاهات العالمية

نسبيًّا تتوافق تطلعات دول الخليج العربية في مجال الذكاء الاصطناعي مع تطلعات القادة العالميين في مجالات التكنولوجيا، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا؛ ولكنْ للمنافسة على المستوى العالمي ستحتاج هذه الدول إلى إنشاء نظام بيئي قوي ومرن للذكاء الاصطناعي، يشمل التعليم والبحث والابتكار وريادة الأعمال، وما يرتبط بذلك من بنية تشريعية ملائمة. ولن تقتصر متطلبات ذلك على الاستثمارات المالية الكبيرة فقط، بل تشمل أيضًا التعاون مع المؤسسات التعليمية، مثل الجامعات، وشركات التكنولوجيا، والشركاء الدوليين.

تعزيز تعليم الذكاء الاصطناعي وبحوثه

يُمثل التعليم والبحث في مجال الذكاء الاصطناعي ركيزتين أساسيتين في مشهد الذكاء الاصطناعي؛ فمن الأهمية بمكان أن تستثمر الدول الخليجية في دمج مفاهيم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته بالمناهج التعليمية التي تنمي المهارات في مراحل سنّيّة باكرة؛ إلى جانب إنشاء مراكز بحث، وتعزيز التعاون بين قطاع الصناعة والأوساط الأكاديمية. ويُعد الدمج بين الصناعة والبحث العلمي والذكاء الاصطناعي من أهم الحوافز التطويرية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهو جسر قد يمكّن المنطقة من استيعاب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والإسهام في تطورها بما يخدم المستهدفات الوطنية.

مستقبل الذكاء الاصطناعي في دول مجلس التعاون

على الرغم من التحديات الكبيرة للذكاء الاصطناعي؛ فإن الفوائد المحتمَلة لهذا القطاع في الدول الخليجية كبيرة جدًّا؛ والمقصود هنا هو تحقيق مستويات جديدة من الأداء، والتقدم في تطوير الآلات الإنتاجية والصناعات اللوجستية والخدمية والعسكرية والدفاعية، فضلًا عن بيئات عمل مساعدة تُمكّن صنَّاع القرار من قراءة المستقبل، ورصْد البيانات الدالة على تقدُّم الخطط الموضوعة والخيارات الاستراتيجية المتاحة، أو تأخرها.

ووفقًا لتقارير دولية؛ فإن نسبة إسهام الذكاء الاصطناعي المحتمَل في منطقة الشرق الأوسط تصل إلى 320 مليار دولار -أو نحو 11 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي- بحلول عام 2030؛ ويمثل ذلك مجرد قمة لجبل جليدي ضخم؛ ذلك أن التوقعات المنطقية تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يسهم بما يجاوِز ذلك كثيرًا. وقد يرتفع هذا الرقم مع مواصلة الدول الاستثمار في الابتكار، وتعزيزه في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحقيق فوائد اجتماعية واقتصادية كبيرة، وإحداث تغييرات ثورية في مختلف القطاعات، وتحويل أنماط الحياة.

ولكنْ يتعيَّن على الدول الخليجية الانتباه إلى أن رحلتها ستتطلَّب أكثر من مجرد استراتيجيات؛ فبدايةً يجب أن تتضمَّن الاستراتيجيات سياسات التعامل مع الآثار المعاكسة للذكاء الاصطناعي، سواء الاجتماعية أو الأخلاقية أو الإنسانية؛ وستحتاج هذه الدول أيضًا إلى ربط خططها مع منظومة إيكولوجية متكاملة لتوجيه الاستثمارات الكبيرة نحو هذه البيئة، إضافةً إلى التعليم وتنمية المهارات، والتعاون الدولي، والهياكل التنظيمية الفعَّالة، والوعي المجتمعي، وثقافة الابتكار وريادة الأعمال، ونُظم إدارة البيانات، والرؤية الطويلة المدى المرتكزة على محورَي المرونة والاستدامة.