الحد من الانبعاثات الكربونية في الدول العربية

...
التاريخ: 17 - 08 - 2023

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د.علي محمد الخوري

بينما يُصارع العالم للتعامل مع تغيُّر المناخ؛ بصفته من أهم القضايا البيئية على المستويين الوطني والعالمي، يسلِّط العلماء أضواءهم على الأنشطة الصناعية في أنحاء العالم؛ فهي من القطاعات الرئيسية المسهمة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ ما جعل العديد من الدول النامية تحت ضغوط دولية لتحمُّل مسؤولية أكبر في هذا السياق، خاصةً مع انتشار تقارير الانبعاثات العالمية، وتوسُّع شبكات مراقبتها.

وأدى الارتفاع الملحوظ في أنشطة الدول العربية الاقتصادية إلى ارتفاعات موازية في انبعاثات الكربون، بزيادة وصلت إلى 192% في العقود الثلاثة الماضية. وتؤكد هذه المؤشرات الحاجة الملحَّة إلى مراجعة سياسات الطاقة الحالية، والتحول إلى الممارسات المستدامة، والتيقُّظ للسياسات العالمية التي قد تفرض المواءمة والامتثال للحدود المتفَق عليها في الاتفاقيات الدولية؛ أو مواجهة الضرائب وصولًا إلى العقوبات، بحسب ما ينادي به كثيرون.

العلاقة المعقَّدة بين النشاط الصناعي وانبعاثات الكربون

بلغ نصيب الدول العربية من ثاني أكسيد الكربون الأحفوري، في عام 2021، أكثر من ملياري طن، وهي تشكل 5.45% من إجمالي الانبعاثات العالمية وفق إحصاءات الاتحاد الأوروبي. واللافت للنظر هنا هو الارتفاع الضخم في حجم الانبعاثات، التي كانت تقف عند مستوى 0.7 مليار طن في عام 1990.

وما يهمنا هو العلاقة التفاعلية بين النمو الصناعي، واستهلاك الطاقة، وانبعاثات الكربون، على المستويَين القطاعي والوطني؛ ما يُعَدُّ أمرًا بالغ التعقيد، ويتطلَّب تكوين فهم أعمق لديناميكيات هذه العلاقة من أجل تصميم سياسات فعَّالة ومستدامة.

ولن يكون من السهل على الدول العربية، بهياكلها الاقتصادية المتنوعة، وأنظمة إنتاج الطاقة واستهلاكها التي تميل إلى أن تكون غير مستدامة، تبنِّي خطط عمل تضمن النتائج المستهدفة؛ فالمهمة معقدة بسبب العديد من العوامل المتشابكة، التي تعود في مجملها إلى اعتماد الاقتصادات العربية الكبير على الوقود الأحفوري، والبنى التحتية الحالية المصمَّمة لتلائم استخدامات النفط والمشتقات النفطية، فضلًا عن المقاومة المتوقَّعة من العامَّة؛ لإحداث تغيير حقيقي في أنماط الحياة اللازمة للحد المُجدي من الانبعاثات. وتأتي هذه التعقيدات بالتوازي مع التكلفة التي يتطلَّبها الانتقال إلى أي نمط أكثر استدامةً في مجال الطاقة، وهي التكلفة التي لا تتحمَّلها الموازنات العربية، ولا سيما في ظل حالة تضخم، وأزمات اقتصادية متتالية.

وغالبًا ما يكون المشهد السياسي مثيرًا للجدل عند التعامل مع السياسات البيئية؛ ما يزيد من صعوبة تنفيذ الإجراءات البيئية المطلوبة واقعًا.

تغير قواعد اللعبة مع الطاقة المتجددة

أصبح مؤكدًا أن أخطار تغير المناخ المحدقة تتطلب تحولات براجماتية في استراتيجيات تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، ورسم الطريق لمستقبل مستدام منخفض الكربون. وبالنسبة إلى البلدان العربية لم يعُد الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة ضرورة بيئية فحسب، بل فرصة استراتيجية سانحة ومحرِّكًا مهمًّا لخلق فرص عمل وأسواق جديدة، ولا سيَّما فرص تصدير الطاقة النظيفة، إضافةً إلى إمكانيات بروزها دولًا رائدةً في مجال الاستدامة، وتعزيز سمعتها وتأثيرها الدولي.

لذا؛ فإن الحكومات العربية، والشركات العاملة في المنطقة، تحتاج إلى أن تعطي خفض بصمتها الكربونية الأولوية من خلال الاستثمار في ترشيد كفاءة الطاقة، وتحسينها، عبر القطاعات، والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجدِّدة، وتشجيع منظومات الإنتاج الصديقة للبيئة، وتطوير أدوات التمويل الخضراء؛ لتحفيز التحول المطلوب على المستوى الوطني؛ إلى جانب حملات التثقيف والتوعية المجتمعية.

دور السياسات في تحفيز التحول الأخضر

لتحقيق الآمال المنشودة لا بدَّ أن تؤدي السياسات الوطنية دورًا حاسمًا في الدفع نحو تبنِّي خيارات الطاقة المتجددة، التي ستصبُّ بالتالي في المصالح الاقتصادية والبيئية للدول العربية. والنقطة المحورية هنا هي أهمية مراعاة حقيقة أن مستويات الدخل المرتفعة تميل إلى الارتباط بزيادة الوعي البيئي، والتقدم التكنولوجي؛ ما يتطلَّب من صانعي السياسات إعطاء الأولوية للمبادرات الصديقة للبيئة، مثل مشروعات المدن الذكية، التي يمكن أن تخفِّف من انبعاثات الكربون، وتعزز نوعية حياة المواطنين.

تحديد الأهداف الطموحة للانبعاثات الصفرية

تتطلَّب معالجة تغير المناخ، إلى جانب السياسات العامة، تبني أهداف طموحة لخفض صافي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الصفر؛ فما دامت معدلات تصدير الغازات تفوق انبعاثات أحواض الكربون الطبيعية، مثل الغابات والأراضي العشبية؛ فإن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي سيستمر في الارتفاع. ومن ثمَّ لم يعُد أمام الدول العربية خيار سوى التزام التخطيط لمستقبل خالٍ من الانبعاثات، وإلا فسيكون عليها مواجهة الأخطار الحتمية على اقتصاداتها، وتجارتها العالمية، ومشروعاتها التنموية، وصحة سكانها.

ولا بد أن تتضمَّن عملية التخطيط للعمل المناخي تحديد التكلفة الحقيقية لانبعاثات الكربون؛ وتطوير السياسات المالية المشجِّعة لاقتصاد منخفض الكربون، مثل أدوات التمويل الأخضر (القروض، أو السندات، أو المنح الهادفة إلى تمويل المشروعات والابتكارات المستدامة).

الكهرباء النظيفة بصفتها منارة لمستقبل مستدام

يُعَدُّ إنتاج الكهرباء، الذي يسهم بشكل كبير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، من المجالات الأساسية التي يمكن التركيز عليها. وتستطيع الدول العربية الاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء النظيفة، ومن ثمَّ تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. كما يمكن أن يؤدي استخدام التقنيات الحديثة الموفِّرة للطاقة في الصناعات إلى زيادة كفاءة الطاقة، وتقليل الانبعاثات. وإضافةً إلى ذلك يمكن أن يسهم التحول في طلب المستهلكين للمنتجات الغذائية، وغيرها، المنخفضة الكربون في التخفيف من آثار تغيُّر المناخ.

ويزيد ذلك من أهمية دعم الحكومات قطاع تقنيات الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة المائية، التي لا تستنفد الموارد الطبيعية، ولها تأثير ضئيل في البيئة إن لم يكن إيجابيًّا؛ بجانب تشجيع الصناعات على تبنِّي عمليات التصنيع الخضراء التي تتسم بالكفاءة، وتولِّد الحد الأدنى من النفايات.

ويمكننا القول إن الاستثمار في الكهرباء النظيفة هو استراتيجية حاسمة ومؤكَّدة لمعالجة تغير المناخ، وتحسين جودة الهواء.

السياسات الإقليمية الخضراء

إن العالم، بيئيًّا، أشبه ما يكون اليوم بالقرية الواحدة التي لا تفصلها الحدود؛ فالرياح والأعاصير والأمطار تتحرك بما تحمله من دولة إلى أخرى، وتؤثر في بعضها بعضًا، سواء بالارتفاع بدرجات الحرارة، أو انخفاضها الكبير، وقد تؤدي إلى حدوث الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات والسيول؛ ولهذا اكتسب الموضوع حقوقًا متداخلةً بين الدول لعدم استقلالية الأداء البيئي، سواء كان جيدًا، أو سيئًا.

وفي سياق مناقشات الحلول يبرُز محور تشكيل منظمة، أو تكتل عربي لتوحيد السياسات والمواقف بالمحافل الدولية؛ فأغلب ما تعانيه المنطقتان العربية والإفريقية من التلوث البيئي ومآسي تغير نسب الكربون، إنما مردُّه، في الأغلب، إلى الخارج، وخاصة طوال القرن الماضي؛ نتيجةً للنهضة الصناعية التي انتشرت في العديد من دول العالم المتقدمة صناعيًّا. وحتى نحقق التوازن بين الحقوق والواجبات؛ فعلى تلك الدول، التي حققت تفوقها الصناعي خلال المرحلة السابقة، أن تتحمَّل مسؤولياتها الأخلاقية في مساعدة البلدان النامية في جهود التخفيف والتكيُّف؛ وذلك في حد ذاته يُبرز أهمية توحيد المواقف العربية.

كما أصبح ضروريًّا ترجيح المنطق العقلي الجماعي في فهم الأحداث، وتنسيق المواقف العربية، بدلًا من الاعتماد الكلي على المواقف الدولية؛ فعودة العديد من الدول الأوروبية إلى حرق الفحم والخشب في الشتاء الماضي للحصول على الطاقة بصفته حلًّا بديلًا لأزمة الغاز الروسي؛ كان لها أثر كبير في متوسط درجة الحرارة بالكوكب هذا الصيف. وتتضح مرة أخرى مصلحة الدول العربية في ترشيد هذه التصرفات؛ والإشارة إليها بجرأة بدلًا من التموضع بمحل اللوم من تلك الدول المتسبِّبة بأزمات البيئة فعليًّا.

التنمية المستدامة من منظور طويل الأجل

في النهاية، ممَّا لا شك فيه أن رحلة خفض انبعاثات الكربون تتطلَّب منظورًا طويل المدى، وتعاونًا دوليًّا من جميع الأطراف؛ ولكن لا ينبغي توزيع المسؤولية بالتساوي بين جميع الدول، فالمسألة الجدلية ستبقى دائرة في عقولنا بشأن الأبعاد السياسية لقضية المناخ؛ بصفتها وسيلة للتحكم، أو إبطاء التقدُّم الاقتصادي في الدول النامية.

وعلى كل حال يحتاج صانعو السياسات في المنطقة العربية إلى إعطاء الأولوية للتنمية المستدامة الطويلة الأجل، وتجاوز الخيارات السريعة والحلول غير المكلِّفة، والتزام التغييرات الهيكلية والتنظيمية المطلوبة. ولا بدَّ أن تراعي الخطط الوطنية وضع الأهداف الذكية، والتكتيكات التشغيلية المحفِّزة، ومعايير رصد التقدُّم في رحلة التنمية المستدامة المنخفضة الكربون.

إن المهمة ملحَّة، والتحديات كبيرة، والقرارات التي ستتخذها الحكومات اليوم ستحدِّد الآثار البعيدة المدى في مستقبلَيها الاقتصادي والبيئي.