تحديات غير مسبوقة تواجه الأسواق الناشئة في عام 2024

...
التاريخ: 26 - 02 - 2024

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د.علي محمد الخوري

في وقت يعاني فيه العالم انعكاسات سلبية من جَرّاء الأحداث الدولية، والبيئة الاقتصادية العالمية الإشكاليَّة، تقف الأسواق الناشئة أمام مصفوفة مُعقدة من التحديات غير المسبوقة. وبحسب مؤسسة “جيه بي مورجان للأبحاث”؛ فإن الاقتصاد العالمي سيشهد تباطؤًا عامًّا في نموه مع نهاية عام 2024، متأثرًا بنقص السيولة وصعوبة الاقتراض. ويشير تحليل مركز “أموندي للأبحاث” إلى أن آفاق النمو الإجمالي للاقتصادات المتقدمة القاتمة ستكون لها آثار مضاعفة في الأسواق الناشئة التي تتسم -بطبيعتها- بالحساسية تجاه ديناميكيات السيولة العالمية، وتدفقات الاستثمار الخارجي.

وهذا التحليل مبرر بمعطيات عدَّة، منها التوترات الجيوسياسية، وخاصةً في المناطق ذات الأهمية الحيوية لإمدادات العالم من الغذاء والطاقة، مثل أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، التي تخلق حالة من عدم اليقين، وتؤثر سلبًا في مشروعات الاستثمار ومعدلات النمو؛ ثم إن التباطؤ الاقتصادي الكبير في الصين سيؤثر في كثير من الاقتصادات المعتمدة على التجارة مع الصين، إلى جانب الضغوط المالية المتزايدة في ظل زيادة أسعار الفائدة الحقيقية؛ وارتفاع مستويات الديون في الاقتصادات النامية، الذي يجعل خدمة الديون أكثر صعوبة؛ كما أن تجزئة التجارة، الناجمة عن القيود التجارية المتزايدة، والتحولات نحو استراتيجيات “دعم الأصدقاء” و”المساندة القريبة” المتمثلة في نقل الإنتاج إلى دول صديقة وقريبة، هي عوامل معوّقة لانتعاش التجارة العالمية.

ويشير التحليل القطاعي إلى أنه سيكون هناك تباين في أداء أسهم الأسواق الناشئة نتيجة الطبيعة المتنوعة لهذه الاقتصادات. ويرى معهد “أكسفورد إيكونوميكس” أن دولًا في آسيا، مثل الصين والفلبين وماليزيا، تظهر في وضع جيد يسمح لها بالنمو المستدام؛ ولكنْ في المقابل ستواجه دول مثل الأرجنتين وجنوب إفريقيا وتركيا والبرازيل تحديات أكثر صعوبة، وستشهد نموًّا أضعف في المدى الطويل. ويُعزى هذا الوضع إلى أسباب عدة منها التدابير المتعلقة بمنظومات العمل، وتدفقات رؤوس الأموال، والدور الحاسم لعوامل مثل نمو الإنتاجية، والهيكل الاقتصادي، والحوكمة في تشكيل المصير الاقتصادي لهذه الدول.

وستظلُّ معدلات التضخم تُشكل مصدر القلق المُهيمن، مع توقعات بمتوسط تضخم يبلغ نحو 7.6 بالمئة في جميع الأسواق الناشئة العام الجاري. وعلى الرغم من أن مسار التضخم سيشهد تراجعًا في أجزاء من آسيا وأمريكا اللاتينية؛ فإنه سيواجه أيضًا رياحًا معاكسة مُحتملة ناجمة عن تجدد الضغوط على أسعار الغذاء والطاقة والسلع الأساسية، التي ستشكل مُجتمعة تحديات اقتصادية واجتماعية للأسواق الناشئة.

وتؤكد هذه المعطيات أهمية إعادة النظر في الاستراتيجيات الاقتصادية بالأسواق الناشئة؛ لإيجاد توازن بين متطلبات النمو الاقتصادي، وإدارة التضخم، ونقاط الضعف الخارجية؛ ويدعو ذلك إلى اتباع نهج دقيق في التعامل مع السياسة النقدية، والاستفادة من فرص النمو في قطاعات محددة.

ويتعيَّن هنا على البنوك المركزية في الأسواق الناشئة أن تضع سياسات نقدية تستجيب للظروف الاقتصادية المحلية والتحولات العالمية، وخاصةً المرتبطة بأسعار الفائدة، وتقلبات قيمة العملة الوطنية، والمحافظة على احتياطيات كافية من النقد الأجنبي. وسيكون التوازن الدقيق بين هذه الإجراءات محوريًّا لتحفيز النمو، وضمان الاستقرار الاقتصادي، وثقة المستثمرين.

ولا بدَّ من أن تعي حكومات الأسواق الناشئة أهمية الحفاظ على مستويات ديون مستدامة مع الاستثمار في القطاعات المعززة للنمو، وهو ما يتطلب التخصيص الاستراتيجي للموارد نحو مشروعات البنية الأساسية، والتعليم والتكنولوجيا؛ بصفتها قطاعات من شأنها تحفيز النمو في الأمد البعيد؛ ثم إن الإصلاحات الهيكلية الهادفة إلى تحسين النظم الإدارية والحوكمة، وتعزيز بيئات الأعمال، وتشجيع الابتكار، ستكون عناصر حيوية في جذب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز القدرة التنافسية.

ويمثل التحول الرقمي فرصة فريدة للأسواق الناشئة؛ فالاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتعزيز بيئة مواتية للإبداع التكنولوجي يمكن أن يسهما في تجاوز نماذج النمو التقليدية. ومن المهم أن ترتكز هذه الاستثمارات بالتزامن على تطوير المهارات وريادة الأعمال، والأطر التنظيمية الداعمة للاقتصاد الرقمي.

ويتعيَّن على الأسواق الناشئة أيضًا أن تبصر كل ما قد يقوّض دورها في التجارة العالمية، وأن تسعى إلى مزيد من التكامل الإقليمي لزيادة فرص الوصول إلى الأسواق، والاستثمار في البنية التحتية الإقليمية لتسهيل التجارة السلِسة عبر الحدود، وتقليل الحواجز التجارية بما يخدم المصالح المشتركة؛ كما أن طبيعة الأسواق الناشئة التي تُعرّضها لصدمات خارجية ناجمة عن التقلبات المالية في الأسواق العالمية، أو تقلبات أسعار السلع الأساسية، أو التوترات الجيوسياسية، تتطلَّب بناء القدرات المحلية، ولا سيَّما تنويع القاعدة الاقتصادية، وتدعيم شبكات الأمان الاجتماعي، وتطوير القطاعات المالية.

وكثيرًا ما تكون الاقتصادات أكثر عرضة للتداعيات المرتبطة بالمناخ، مثل الفيضانات والجفاف والظواهر الجوية المتطرفة، التي يمكن أن تكون لها آثار مدمرة في الزراعة والبنية التحتية والاستقرار الاقتصادي العام. وإضافةً إلى ذلك قد يمثل التحول العالمي نحو الاقتصادات المستدامة والصديقة للبيئة تحديات وفرصًا للأسواق الناشئة؛ فعلى سبيل المثال ربما تواجه البلدان التي تعتمد على صادرات الوقود الأحفوري تحديات اقتصادية؛ بسبب انخفاض الطلب العالمي على هذا النوع من الوقود، في حين يمكن أن تستفيد بلدان أخرى من الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء. وتؤثر السياسات والاتفاقيات البيئية الدولية، مثل اتفاقية باريس، على نحو متزايد في قرارات التجارة والاستثمار. ونتيجة لذلك يتعين على الأسواق الناشئة أن تعي هذه الديناميكيات المُعقدة، والاستثمار في القدرة على التكيف مع تغير المناخ، والانتقال إلى مصادر الطاقة المستدامة، والمواءمة مع المعايير البيئية العالمية. ومن الممكن أن يفتح هذا المحور الاستراتيجي آفاقًا جديدة للنمو، ويجذب الاستثمارات الخضراء، ويعزز الاستدامة في المدى الطويل.

ويظل التعاون الدولي عاملَ تمكين رئيسيًّا للأسواق الناشئة؛ للوصول إلى الموارد المالية العالمية، ونقل التكنولوجيا، وتحقيق التنمية المستدامة في هذه الاقتصادات. ومن الممكن أن يوفر التعاون مع المؤسسات الدولية، والبنوك المتعددة الأطراف، وشركاء التنمية أرضيةً للوصول إلى الدعم والخبرة اللازمين في هذه الرحلة؛ لتكوين الفَهْم، وتعزيز التعامل الدقيق مع التحديات والفرص الإقليمية والدولية، والديناميكيات القطاعية، والتموضع الاستراتيجي في النسيج الاقتصادي العالمي.