استعرضنا في المقالات السابقة مفهوم الاقتصاد الرقمي بصفته الممكن الأهم والمحفز التكنولوجي لسلسلة إنشاء القيمة (Value Chains) وهي سلسلة تتشكل معها القيمة الاقتصادية المضافة (Economic Value Added) للسلع والخدمات في مراحل الإنتاج أو التداول.
كما وبينا أنه وبتقاطع سلاسل القيمة، فإنها تنتج شبكة من المعاملات الاقتصادية (Value-creating Networks)، وهو ما يمكن الاصطلاح عليها بـ “شبكة العرض والطلب”، وهي شبكة أصبحت اليوم وبفضل التكنولوجيا تضم معظم القدرات الاقتصادية العالمية.
ولكن، ما الذي يحرك شبكات القيمة الاقتصادية؟ إن حركة المواد والمنتجات والخدمات تتم بلا شك وفق منظومة تقوم بتوجيهها، فكل تصرفات القيمة المضافة تتم بهدف تلبية الطلب عليها، سواء كان هذا الطلب مباشراً مثل أمر الشراء أو غير مباشر مثل توقعات السوق. وهذه المنظومة المحركة لشبكة القيمة الاقتصادية تتمثل في “البيانات والمعلومات” التي يحرص الأطراف المشاركة في سلاسل القيمة المضافة – لكل منتج أو خدمة – على جمعها وتحليلها وفهمها كأداة للتخطيط وتنفيذ القرارات الاقتصادية.
وكأفراد ومؤسسات نحتاج إلى المعلومات في اتخاذ قرارتنا، وتأتي هذه المعلومات من البيانات وهي تلك الأوصاف المفردة لتصف واقع أو حالة ما، مثل الأسعار والتكاليف، وأسماء المنتجات والعناوين وغيرها. وبتجميع مثل هذه البيانات وربطها بشكل منطقي يمكن تحويلها إلى معلومات ذات فائدة وقيمة.
ومفهوم المعلومات، من قدم الزمان، كان معتمداً على الحوار اللغوي المسموع أو المكتوب والتي يدخل بها لغة الإشارة ولغة الجسد وطرق توصيل المعرفة الأخرى مثل الرسوم والصور. وقد فطن الإنسان قديماً لأهمية تسجيل أفكاره من خلال الرسم على جدران الكهوف والصخور والتي تطورت بالحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والأشورية التي عرفت الكتابة ومازالت العديد من آثارها موجودة بين أيدينا اليوم. ومازالت هذه المعلومات المدونة منذ آلاف السنين هدفاً وغاية للعلماء لبحثها وتفسيرها وفهم الكثير من التفاصيل عن الماضي وتاريخ من سبق طلباً لمزيد من المعرفة.
ثم تطورت الكتابة وطرق التدوين لتسجيل الأفكار والعلوم والمعارف وتوثيق الاتفاقيات التجارية والالتزامات الاقتصادية عبر التاريخ، وظلت لآلاف السنوات أمراً ليس بالهين، نظراً لكونها معتمدة على التدوين اليدوي، حتى أن اقتناء كتاب بالماضي كان يعتبر أمراً غاية بالندرة، وينظر له بمثابة الثروة نظراً للجهد الكبير والوقت المبذول في كتابته وتدوينه وتجليده. وظل هذا الأمر سائداً حتى ظهور اختراع الآلة الكاتبة منذ حوالي المائتي عام، والتي اعتبرت بمثابة ثورة معرفية هائلة نقلت البشرية نقلة نوعية جبارة؛ إذ بسبب هذا الاختراع شاع امتلاك الكتب وازدهر التعليم وانتشرت المعرفة.
النقلة النوعية التالية كانت بالخمسينات من القرن الماضي عند اختراع الحاسبات الالكترونية وبدء تسجيل البيانات الرقمية إلكترونياً والتحول في تسجيل الأرقام والبيانات والمعلومات من الورق إلى الملفات الرقمية. وفي هذه المرحلة ظهرت التطبيقات الرقمية مثل نظم الإدارة الشاملة (Enterprise Resource Planning – ERP) والتطبيقات البنكية والحكومية بغرض الاستفادة من قدرة الحاسوب الخارقة في التسجيل والحساب وإنشاء قواعد البيانات. خلال هذه المرحلة ظهرت وسائط لتخزين البيانات مثل الهارد ديسك وشرائط الكاسيت الممغنطة والأقراص المرنة.
ثم دخلنا عصر الانترنت والذي بدأ انتشاره بمطلع التسعينات وسرعان ما أصبح وسيلة الاتصال الأساسية العالمية مع نهاية هذا العقد، والتي أنتجت حجماً من المعارف والمعلومات ونقلت التطبيقات الرقمية نقلة هائلة، إذ أصبحت تعتمد على الاتصال من خلال الشبكة العنكبوتية وانتقلت الأعمال من الطرق التقليدية لتصبح شبكة الإنترنت هي الوسيط الحامل لكافة هذه المعلومات وقواعد البيانات. وصَاحَبَ هذا التقدم ثورة هائلة في تصنيع وتطوير الدوائر التكاملية المبنية من شرائح الموصلات الدقيقة التي مكنت من تصنيع حواسيب خارقة، إذ يكفي أن الهاتف الخلوي الرقمي الذي بين أيدينا اليوم تصل قدرته لحاسب إلكتروني ضخم بالسبعينيات والثمانينيات (Mainframe computers)، وتعاظمت القدرة على تصنيع وسائل تخزين البيانات الرقمية، ومازال هذا التطور ماضيا متناميا بمعدل أُسِي “Exponential” وفقا لقانون مور (Moore’s Law) والذي يصف أن قدرة الآلة الرقمية تتضاعف كل 18 شهراً و ينقص حجمها بمقدار النصف. وعلى الرغم من توقع عدم قدرة التكنولوجيا على الاستمرار بنفس النمط مع وصولها لمستويات فاعلية وأبعاد متناهية الصغر، إلا أن البدائل ما زالت في طريقها للنمو والإزدهار لتلبية الحاجات البشرية المتزايدة والمعتمدة على البيانات، والتطور التقني المطلوب.
فكيف يمكن أن نتصور نمو البيانات في المستقبل القريب؟ نحن مقبلون وفي ظل الثورة الصناعية الرابعة على قفزة جديدة في عالم البيانات والسجلات الرقمية سواء على مستوى انتاجها أو تخزينها أو تداولها وتحليلها وبشكل غير مسبوق، إذ أصبحت البيانات الرقمية غاية بالضخامة ومعقدة التركيب، وليست محصورة على قوائم السجلات البشرية المكتوبة أو الكتب أو قواعد البيانات المحاسبية والبنكية أو الخاصة بالشركات، بل نحن الآن بصدد مصادر كبيرة جداُ من البيانات تنتجها الآلة القادرة على الاتصال بالإنترنت وتسجيلها وحفظها بشكل ذاتي.
تتجلى هذه الإمكانات في مفهوم إنترنت الأشياء (IoT Internet of Things -) والتي تقوم فيه الأجهزة والآلات -بتعدد أنواعها – والمتصلة بالشبكة العنكبوتية بتسجيل الأحداث المصممة لقياسها وإرسالها – كدرجات الحرارة أو ضغط الدم أو سرعة السيارات أو صور الوجوه أو مستوى الرطوبة أو الأصوات – هذا بالإضافة لما تقوم به أجهزة الهاتف المحمول – والتي تدخل أيضا بهذا النطاق – من إنتاج لسجلات رقمية تفوق تصورنا وتسجل ما لا يمكن تصوره، وتقوم بتخزين البيانات وإرسالها إلى مراكز البيانات على هيئة سجلات رقمية.
وتشير الإحصاءات العالمية عن تنامي حجم البيانات بمعدلات مذهلة. فما تم انتاجه من بيانات خلال العامين الماضيين فقط يساوي 90٪ من بيانات العالم؛ أي مساوياً أو يفوق حجم كل البيانات التي أنتجها البشر قبل هاتين السنتين منذ بدء الخليقة. كما وأشار مقال نشر في مجلة فوربس مؤخراً إلى أن البيانات ما زالت تنمو بوتيرة متسارعة أكبر من أي وقت مضى، وأنه وبحلول عام 2020، ستنشئ حوالي 1.7 ميغابايت من المعلومات الجديدة كل ثانية لكل إنسان على هذا الكوكب.
هذه الإحصائيات البسيطة تدل على النمو المتسارع للبيانات الكبيرة عالمياُ والتي لا ندري إلى أين سيصل حجمها، وهل ستواجه البشرية مشكلة بالمستقبل في متطلبات التخزين، وهل نحن مقبلون على مرحلة زمنية ستتطلب منا حذف البيانات في يوم ما على سبيل ترشيد البيانات، مثل ترشيد النفقات؟
وحسب ما نشرته شركة أي بي إم، سيبلغ حجم البيانات المنتجة والمخزنة بالعام 2020 حوالي 40 زيتابايت (Zetta Byte) أي رقم 4 وأمامه 22 صفراً، وأن هذا الحجم من البيانات سيساوي 300 ضعف البيانات التي توفرت حتى نهاية العام 2005. وأشارت دراسة أخرى لجامعة هارفارد لنفس التقرير، موضحة فيه أن تكلفة البيانات السيئة (Bad Data) سنوياً على الولايات المتحدة وحدها حوالي 3 ترليون دولار، وهي خسارة تصورية تمثل 15% من الاقتصاد الأمريكي؛ يمكن أن تحول إلى بيانات مفيدة في حال تم حسن توظيف وتشغيل هذه البيانات.
أين تقف الدول العربية من إمكانات البيانات الكبيرة؟ تقدم البيانات الكبيرة اليوم ميزة تنافسية للحكومات والمؤسسات في القطاعين العام والخاص. وعلى الرغم من أن بعض الجامعات العربية والإقليمية بدأت بإنشاء تخصصات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، إلا أنها تقف بمسافة بعيدة عن تلبية المتطلبات المتسارعة لسوق العمل. ويتوجب هنا ضرورة التخطيط الدقيق والمنظم لتوفير الكفاءات والمهارات القادرة والمتمتعة بنفس القدرات التي تتوفر في المهن عالمياً للسوق العربي.
وعلى الحكومات العربية أن تراعي في مشاريعها الكبرى في مجالات البيانات الكبيرة وأن تتأكد من نقل الخبرات من الشركات العالمية للشركات العربية المحلية، والذي يمكن أن يكون من خلال عقود التحالفات التشاركية والمكونة من أكثر من شركة وتضم فيها شركات محلية – وهو أمر هام لنقل الخبرات الدولية في هذا المجال لمنطقتنا العربية.
كما أننا بحاجة لأن يعي رجال الأعمال فائدة البيانات والمعرفة كسبيل استراتيجي لتطوير أعمالهم ونقلها لمستويات تنافسية جديدة وأكبر محلية وإقليمية وعالمية. ولا شك بأنه سيكون للاستثمار في البيانات الكبيرة عوائد متميزة تصب في اتجاه تعزيز الواقع الاقتصادي العربي ولا سيما على مستوى الدخل العام أو مستوى توفير الوظائف كنتيجة مباشرة لانتعاش السوق.
كما نرى بأن على رجال الأعمال والمؤسسات الكبيرة مقارنة دورها المجتمعي مقابل ما تقوم به المؤسسات الاقتصادية عالمياً بالدول المتقدمة حيث نجد الأخيرة تقوم بدور كبير وهام في رعاية الشركات الناشئة ورواد الأعمال والاستفادة المشتركة من قدرات هذه الشركات التي تتصف بالمرونة والابتكار وخاصة في المجالات التكنولوجية الحديثة. هذا الدور تقريباً غائب في الدول العربية ولا يعقل أن نظل نطالب الحكومات أن تعالج هذا الأمر بشكل منفرد، بل يجب أن يمتد هذا الإجراء التكافلي ليشمل قطاعات الأعمال الخاصة، ونعتقد أن هذا الدور الهام سيكون له مردود كبير في تطوير ابتكارات وبرمجيات وحلول لاستخدامات التقنية، ولا سيما البيانات الكبيرة والتي نحتاج توطين هذه الصناعة بشكل استراتيجي بالعالم العربي لما لها من مردود اقتصادي واجتماعي كبيرين.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |