الصراعات الاقتصادية بين القوى الدولية تدفع بسيناريوهات ومشهد عالمي جديد ومقلق

...
التاريخ: 04 - 08 - 2022

القاهرة

المصدر: جريدة أخبار اليوم

أ.د. علي محمد الخوري

الرؤية المتعمقة للأحداث الجارية على المسرح الدولي، تقطع يقيناً بأن الاقتصاد العالمي يمر بحالة صراع شديدة ومعقدة بين القوى الاقتصادية العظمى. انسحبت آثار هذه الصراعات على الاقتصاد العالمي بوضوح عقب الحرب الروسية-الأوكرانية – التي تعد الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية – وتسببت في أزمة اقتصادية عالمية ارتبطت بإمدادات الغذاء والطاقة ودفعت بمجريات لم تكن متوقعة مثل ارتفاع نسب التضخم التاريخية التي أصبحت تهدد المكون الاجتماعي وبالتبعية استقرار الحكومات؛ مع اندلاع المظاهرات في كثير من عواصم العالم مؤخراً والمنددة بالارتفاعات الجنونية في الأسعار.

ولعل ما يشهده الاقتصاد العالمي من انتكاسة كبيرة، نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، في ظل تجميع أمريكا لمعسكرها ضد روسيا ومن يعاونها، واستخدام روسيا للغذاء والغاز والبترول ككروت حرب تكتيكية في الصراع، نتجت عنها تداعيات اجتماعية وإنسانية مباشرة وفادحة، لن تؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي فحسب، بل وإلى سيناريوهات مستقبلية مُقلقة، وسط ما يشهده العالم من مجموعة لا متناهية من الأزمات والصراعات الطاحنة، والتي وفيما يبدو لن تسمح بخروج أحد منها منتصراً.

ومن الواضح بأنه لن يسلم أحد من دفع ثمن الأزمة الراهنة! حيث تؤكد التقارير العالمية بأن الحرب القائمة والعقوبات المفروضة على المعسكر الروسي، وما سبقه من تداعيات جائحة “كوفيد- 19″، ستتسبب في انكماشات حادة في معدلات النمو العالمية، حيث انخفضت توقعات النمو العالمي إلى 3.6% لعامي 2022 و2023. ووجدت كيانات عظمى مثل دول الاتحاد الأوروبي نفسها عالقة في مرمى النيران المشتعلة في الحرب الدائرة، التي انخفضت توقعات النمو بها للعام الجاري بمقدار 2.7%، وارتفاع معدل التضخم إلى 6.1%.

والحال سواء في دول العالم أجمع وإن لم يكن لها في الأمر لا ناقة ولا جمل! فقد أدت الحرب إلى تفاقم سلسلة صدمات مزقت العديد من سلاسل الإمدادات السلعية والمالية التي لحقت بالاقتصاد العالمي، والذي أحدث ارتفاعات حادة في الأسعار وتأثر بها مستوردي السلع الأولية، خاصة في أوروبا، والقوقاز وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فضلاً عن تأثير ذلك على ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والإضرار بالأسر ذات الدخل المنخفض على مستوى العالم، والتي تنبئ بحدوث مجاعة في كثير من دول العالم؛ وهو الذي ظهرت أول آثاره في وصول سريلانكا لحافة الإفلاس، وكانت آخرها الصومال التي أعلن رئيسها منذ أيام دخول البلاد في مجاعة.

ما لا شك فيه، أصبحت الضغوط التضخمية تشكل خطراً واضحاً وحاضراً في بلدان عديدة، نتيجة ما نراه من الصراعات الدولية المحتدمة، وهو ما قد يؤدي بطبيعة الحال إلى استمرار صعود معدلات التضخم، وارتفاعات جديدة وأكثر حدة ستؤدي إلى المزيد من الارتفاع في أسعار المواد الأولية واختلالات العرض والطلب، والذي سيضغط على الإنتاج ويحد من كفايته لاحتياجات السوق، واتجاه البنوك المركزية إلى تشديد سياساتها النقدية وهو ما قد يعرض الأسواق المالية للهبوط والركود الاقتصادي -بشكل متعاقب- والذي سيجر معه قاطرة معدلات البطالة المتدهورة في الأصل!

إن طبيعة الأزمة الراهنة خطيرة جداً عالمياً، مع دخول أقطاب كثيرة في اتجاهات الصراعات العالمية – الأقطاب التكنولوجية والاقتصادية والسياسية – من بينها الصين بحكم قربها من روسيا المواجه للمعسكر الأمريكي الأوروبي، والتوتر الأمريكي-الصيني في تايوان، والتحشيد الحدودي بين صربيا وكوسوفو، والأخرى ما بين دول عديدة، وتوقع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، يدعونا للقول بأن ما سيشهده الاقتصاد العالمي لن يقف عند أعتاب التضخم الكبير المتوقع في السنوات القادمة، بل من شأنه أن يتسبب بكساد اقتصادي عالمي، أشبه بكساد  ثلاثينيات القرن الماضي، والذي نتج عنه انهيار اقتصادي عالمي، أعقبه حرب عالمية ثانية مدمرة ظلت آثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لعقود طويلة.

إن ما يجري على الساحة الدولية، وفي ظل استسهال اللجوء للسلاح والصراع المكشوف، والحروب الاقتصادية التي لا تقبل بمبدأ الوفرة والنجاح للجميع بل تسعى لصور الصراع القديمة الأكثر بدائية والتي تقضي بضرورة الوصول لمنتصر مقابل مهزوم سيرفع من احتمالات الصراعات المستقبلية وينذر أيضاً بما هو أخطر، وهو تحول هذه الصراعات – سواء كانت تلك الظاهرة والمعلنة أو المكتومة والتي كانت مؤجلة أو يتم معالجتها بطرق دبلوماسية – إلى حرب كونية تدمر العالم وتندفع فيها الحكومات للدخول في حلبة الصراع المكشوف استغلالاً لحالة الفوضى العالمية، وفي ظل وجود آلاف القنابل النووية والعنقودية والبيولوجية في شتى أنحاء العالم، سنواجه جميعا احتمالات خطيرة جدا تؤول إلى تدمير البشرية والحضارة الإنسانية والتي ستأخذ في طريقها من قرر المشاركة في الحروب أو آثر السلم والحياد!

يوجب تفاقم هذه المخاطر اليوم على العقلاء من رجال الحكومات ومؤسساتها، والمفكرين، وخاصة مراكز الدراسات الاستراتيجية ودعم القرار، وكذلك منصات الإعلام لاستخدام الدبلوماسية الناعمة وتغليب لغة العقل والحكمة والسلام بين الفرقاء في معالجة الصراعات الاقتصادية والسياسية من خلال إيجاد حلول جذرية منطقية تسمح باستعادة مبدأ النجاح والفوز للجميع بدلاً من نهاية تكون فيها الهزيمة والدمار للجميع.