زيادة غير مسبوقة في الإنفاق العالمي على الصحة النفسية

...
التاريخ: 27 - 05 - 2024

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د علي محمد الخوري

يشير تقرير صادر عن لجنة لانسيت الطبية إلى أن الاضطرابات النفسية ستصل تكلفتها في الاقتصاد العالمي إلى نحو 16 تريليون دولار بحلول عام 2030؛ وذلك في ظل وجود أكثر من ملياري شخص على مستوى العالم يعانون أمراضًا عقلية. وكانت دراسة سابقة أجراها المنتدى الاقتصادي العالمي، وكلية هارفارد للصحة العامة، أشارت إلى أن العالم سيشهد زيادة غير مسبوقة في الإنفاق العالمي على علاج أمراض الصحة النفسية والعقلية؛ وصولًا إلى ستة تريليونات دولار بحلول العام نفسه.

واللافت للنظر هو النسبة الكبيرة للحالات التي تؤثر بها الصحة النفسية في الحياة اليومية، مع توقعات بأن يصبح الاكتئاب الشديد السبب الرئيسي لعبء المرض على مستوى العالم في الأعوام الستة المقبلة. وتشير دراسات حديثة إلى أن ثُلث السنوات، التي يعاني فيها الأفراد إعاقات ما، تعود إلى مشكلات الصحة النفسية، وأن ثُمُن سنوات الحياة “الصحية” التي تُفقَد عالميًّا يكون بسبب المشكلات النفسية، وأن ما يقارب 14.3 في المئة من الوفيات بجميع أنحاء العالم، أي ثمانية ملايين حالة وفاة سنويًّا، ناجمة عن مشكلات الصحة النفسية.

كما تُظهر الدراسات أن الأفراد الذين يعانون حالات نفسية حادة يكون متوسط العمر المتوقع لديهم منخفضًا بصورة ملحوظة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الأمراض الجسدية التي تُمكِن الوقاية منها. وتتفاقم هذه الإحصائيات المثيرة للقلق بسبب الفجوات العلاجية الكبيرة، خاصةً في البلدان المنخفضة الدخل؛ فعلى سبيل المثال يفتقر نحو 71 في المئة من الأفراد المصابين بالذهان (أي مَن يعانون نوبات الهلوسة والتوهم والاضطراب الفكري) إلى خدمات الصحة العقلية. وبحسب التقديرات؛ فإن البلدان لا تزال تنفق أقل من 2 في المئة من ميزانيتها الصحية على الصحة العقلية، على الرغم من أن عبء المرض قد يستدعي التعامل معه إنفاق نحو 10 في المئة من الميزانية.

وكانت جمعية الصحة العالمية التابعة لمنظمة الصحة العالمية، التي تضم وزراء صحة من 194 دولة عضوًا، قد اعتمدت خطة عمل شاملة للصحة العقلية 2013-2030، حددت فيها أهدافًا طموحة لتحويل النهج العالمي في التعامل مع الصحة العقلية، وتوفير خدمات الرعاية والدعم النفسي والاجتماعي، وتعزيز بحوث الصحة العقلية وأنظمة جمع البيانات. ووفق آراء المتخصصين؛ فإن التقدم المحرَز في هذه الخطة، والتغيير على أرض الواقع في كل أنحاء العالم، لا يزالان بطيئين، وأن مسألة الصحة النفسية لا تزال أحد أكثر مجالات الصحة العامة إهمالًا، مع عدم كفاية مخصصات التمويل والموارد، على الرغم من الدور الحيوي الذي تؤديه الصحة النفسية الجيدة في دعم الأهداف الأوسع للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات والدول.

وكل هذه المعطيات أصبحت تدفع تجاه تقييم تأثير هذه القضية في منظومات العمل على المستوى الوطني، وتتطلب بالضرورة تبني سياسات وطنية شاملة تنظر إلى الصحة النفسية بصفتها مكونًا حيويًّا لصحة المجتمع وسلامته. ولنجاح هذه السياسات يجب أن تعمل الحكومات أولًا على ضمان الوصول العادل إلى خدمات الصحة النفسية، ومعالجة الفوارق بين مختلف السكان، والسعي إلى إزالة العوائق التي تحول دون الوصول إلى تلك الخدمات، ومنها الحواجز المادية، والثقافية، واللغوية. وفي هذا السياق لا يمكن التقليل من دور التكنولوجيا في توفير المنصات الرقمية، التي تقدم خدمات الطب النفسي للعلاج والتدخل المبكر، والدعم المستمر. ويمكن أن تكون التطبيقات الرقمية القنوات المفضلة للوصول إلى خدمات الصحة النفسية، وخاصة إذا ما أخذنا في الحسبان الطبيعة الشخصية المترددة خوفًا من الوصمة الاجتماعية.

كما أن السياسات الوطنية يجب أن تمتد إلى ما هو أبعد من أنظمة الرعاية الصحية التقليدية، وتنظر إلى السياقات الأوسع للصحة العامة، ودور القطاعات الأخرى مثل التعليم والتوظيف والعدالة والخدمات الاجتماعية في المعالجة والوقاية والتدخل المبكر؛ فدور هذه القطاعات يبقى الأهم والأبرز في معالجة المحددات الاجتماعية الأوسع المؤثرة في صحة الفرد النفسية.

ومن المهم جدًّا دعم المشروعات البحثية وتمويلها، وتطوير العلاجات الجديدة لتكوين فهم أفضل للعلاقات السببية، والعوامل المسهمة في الأمراض النفسية. ويجب أن تشتمل البحوث على استكشاف تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية مثل الفقر، والبطالة، والعزلة الاجتماعية، والتمييز، ومدى فاعلية السياسات المختلفة في تحسين النتائج المستهدفة؛ ولا بدَّ أن تتزامن هذه الجهود مع الاستثمار في تحسين جودة البيانات والمعلومات لتمكين جمع بيانات دقيقة ومحدثة، وتمكين التخطيط الفعال، وتقييم السياسات والبرامج.

ولا بدَّ أن تدعم السياسات الوطنية الحملات الإعلامية والتثقيفية بصورها المباشرة وغير المباشرة؛ لتشجيع الأفراد على طلب المساعدة، وزيادة الوعي المجتمعي بشأن مسألة الصحة النفسية عن طريق توظيف الإعلانات التوعوية في وسائل الإعلام، وتنظيم الفعاليات وورش العمل التثقيفية، واستغلال قوة وسائل التواصل الاجتماعي؛ كما يجب أن تشجع السياسات العامة بيئات العمل لتوفير البرامج المُعززة لصحة الموظفين النفسية، وتزويدهم بالفهم والوعي الكافيين للتعامل مع الضغوط النفسية الشخصية، أو مع الحالات المحتملة في محيطهم؛ إذ يمكن لهذه البرامج وسياسات العمل أن تساعد الموظفين على إدارة الضغوط، وتحسين التوازن النفسي.

وإجمالًا تتحدى هذه المدخلات الاستراتيجية بشكل جماعي صانعي السياسات في المنطقة العربية لإعادة تعريف قضية الصحة النفسية، وعَدِّها ركيزة للتقدم والتنمية. ويتطلب تنفيذ مثل هذه السياسات التعاون الوثيق بين المؤسسات الحكومية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والشرائح السكانية المختلفة. ويمكن أن يسهم إيجاد مثل هذه الدوائر التعاونية في توسيع نطاق الخدمات المتاحة، وضمان توفير رعاية عالية الجودة ومتاحة للجميع؛ لتعمل بصفتها حلقات مُكملة لتحقيق أولويات الاستقرار الاقتصادي، وضمان نجاح سياسات التنمية الشاملة والمستدامة.