أبوظبي
المصدر: مفكرو الإمارات
أ.د علي محمد الخوري
في سياق الاقتصاد العالمي المُتّسم بالتنافسية والديناميكيَّة، يبرز التكامل الاقتصادي العربي-الإفريقي بصفته فرصة محتملة، ومجالًا مُجديًا للاستكشاف الابتكاري والاستراتيجي. وعلى الرغم من أن هذا التكامل يَعِد بالنمو المتنوع والمستدام لكل من المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وإعادة تنظيم العلاقات والهياكل الاقتصادية السائدة وتطويرها؛ فإنَّ الوصول إلى تحقيق هذا المستهدَف يتطلَّب اتباع نهج استراتيجي دقيق للاستفادة من الفرص الكاملة.
وتقف المنطقة العربية على مفترق طرق؛ إذ لا يُعد التنويع الاقتصادي فيها خيارًا، بل هو ضرورة حتمية؛ ذلك أن المسار الاقتصادي لهذه المنطقة، الذي يواجِه فترة من إعادة المعايرة الاقتصادية، يُتوقَّع أن يسجل معدلات نمو بنحو 3.3 في المئة العام الجاري (2024)، مقارنةً بـ5.8 في المئة عام 2022 بحسب صندوق النقد العربي. وتؤكد مثل هذه المؤشرات الحاجة إلى التنويع الاقتصادي بما يتجاوز الاعتماد التقليدي على قطاعَي النفط والغاز -اللذين يُتوقَّع انكماشهما وتراجع أسعارهما في السنوات المقبلة- ومواكبة التحول العالمي إلى قطاعات اقتصادية مبتكرة ومستدامة، تتماشى مع اتجاهات الطاقة المتجددة والاستدامة.
وفي قلب هذه المناقشة يأتي الحديث عن الإمكانيات غير المستغلَّة لإفريقيا؛ فهذه القارة -بمواردها الكبيرة وأسواقها الناشئة- تمثّل منطقة غير مكتشَفة للنمو الاقتصادي، على الرغم من إسهامها الكبير في الصادرات العالمية من المعادن الأساسية. وتبيّن الإحصائيات أن متوسط النمو السنوي للاستثمارات المتجددة في إفريقيا، منذ عام 2000، بلغ نحو 96 في المئة، في حين أن القارة لا تحصل إلا على ما يقارب 2 في المئة فقط من الاستثمارات العالمية في هذا المجال. وتشير هذه الفجوة الكبيرة إلى فضاء مملوء بالفرص أمام الدول العربية لاستغلال القدرات الواسعة في قطاع الطاقة المتجددة بالقارة، ولا سيَّما طاقة الرياح، والطاقة الشمسية والمائية؛ ولكنَّ نجاح هذه المساعي يتوقف على مستوى الإدراك لفرص الاستثمار في هذه المجالات، واستراتيجيات التخطيط الفعالة.
وبطبيعة الحال لا يخلو تحقيق إمكانيات التكامل الاقتصادي العربي-الإفريقي من تحديات، يتمثل أبرزها في ارتفاع تكاليف التجارة الإقليمية البينية في المنطقة العربية ارتفاعًا ملحوظًا، مقارنةً بمثيلاتها في المناطق الأكثر تكاملًا اقتصاديًّا، مثل الاتحاد الأوروبي. ويستدعي هذا الوضع بذل مساعٍ جادَّة إلى تحسين التكامل الاقتصادي في المنطقة العربية، وتأكيد تفعيل التعاون بين المؤسسات الإقليمية، وتنفيذ أكثر فاعليَّة للاتفاقيات المتعددة الأطراف.
وبالنسبة إلى إفريقيا؛ فإن الطريق إلى الأمام تنطوي على تعزيز قدرة القارة على التعامل مع الصدمات الاقتصادية العالمية، والتغلب على الصراعات الداخلية، وتحسين إدارة المخاطر. ويجب أن يتوازى ذلك مع تنفيذ استراتيجيات المرونة لتعبئة الموارد والنمو الأخضر العادل، والاستراتيجيات الصناعية الذكية، وتعزيز الأنظمة الضريبية، وتنويع الأدوات المالية، وإصلاح الهياكل المالية.
ولتحقيق التكامل الاقتصادي العربي-الإفريقي الهادف لا بد من اتباع اتجاهات استراتيجية عدة؛ ويتمثل أحد المجالات الحاسمة لكلتا المنطقتين في الاستفادة من التحول الرقمي، والتقدم التكنولوجي؛ ذلك أن دمج التقنيات الرقمية في التجارة والتمويل ليس اتجاهاً عاماً فقط؛ بل هو عنصر أساسي في الاقتصادات الحديثة. وفي إفريقيا تحديداً قد تُعزز المهارات الرقمية، واعتماد تقنيات -مثل التشغيل الآلي، والذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والبلوك تشين- التحول، ورقمنة عمليات الإنتاج والتوزيع والخدمات اللوجستية والمشتريات.
ولا شكَّ في أن هذا التحوُّل يسهم في تحسين الكفاءة التشغيلية من جانب، وتلبية الحاجات التمويلية للشركات من جانب آخر؛ وذلك عن طريق تمكين المعاملات في الوقت الفعلي والتحقق منها؛ ما يعني تقليل الحاجة إلى عمليات التدقيق المادي. وعلى سبيل المثال أدَّى اعتماد التقنيات الرقمية في تمويل سلاسل التوريد الإفريقية إلى ارتفاع قيمة سوق التمويل بنسبة 40 في المئة إلى 41 مليار دولار في عامَي 2021 و2022. ويسلط ذلك الضوء على قدرة الرقمنة على فتح آفاق اقتصادية جديدة، ولا سيَّما تحسين إمكانية الوصول إلى الموارد المالية للشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تمثّل غالبًا العمود الفقري للاقتصادات الناشئة.
وتوجَد قطاعات أخرى مستعدة لاحتضان الابتكار، تتمثل في قطاع الاستدامة، والقطاعات العالية التقنية، وذات إمكانيات النمو الكبيرة، مثل الطاقة المتجددة، والرعاية الصحية، والتكنولوجيا المتقدمة، التي لم تُستكشَف جيداً في التجارة البينية الإفريقية. ويمكن للمنطقة العربية أن تؤدي دوراً حاسمًا في هذا السياق، ليس بصفة مستثمر فقط، بل بصفة شريك استراتيجي في نقل التكنولوجيا والمعرفة، وتنمية القوى العاملة، وتعزيز بيئة الابتكار وريادة الأعمال أيضًا.
كما يمثّل إصلاح السياسات، وتمكين التنظيم المؤسسي أهمية بالغة؛ فوضع سياسات سليمة لتعزيز بيئة مواتية للأعمال والاستثمار أمر محوري -بلا شك- ويشمل ذلك تعزيز حقوق الملكية الفكرية، والأطر القانونية، والاستقرار السياسي، بصفتها عناصر أساسية لجذب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز النمو الاقتصادي.
وإضافةً إلى ذلك يُعدّ التكامل بين سياسات التجارة والاستثمار أمرًا أساسيًّا لتعزيز التجارة والنمو، والرفاهية الاجتماعية، وترسيخ مبادئ التضامن والمصلحة المشتركة. وتستطيع المنطقة العربية الاستفادة من الأطر الدولية، مثل تلك التي تقدمها مجموعة البنك الإسلامي للتنمية لتعزيز التكامل الاقتصادي، إلى جانب تسريع منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) للارتقاء بمستوى التعاون والتكامل بين البلدان الإفريقية؛ ما يوفر طريقًا إلى بناء اقتصادات أكثر مرونة وتنوعًا.
ولا شكَّ في أن التكامل الاقتصادي العربي-الإفريقي يمثل فرصة فريدة لإنشاء نموذج جديد للتعاون الاقتصادي، ويمهد الطريق إلى التنويع الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي، والتنمية المستدامة. ويمكن لمثل هذه الشراكات أن تضع معايير جديدة للتعاون الإقليمي والدولي، وتُحدِث تغييرًا إيجابيًّا في موازين القوى الاقتصادية العالمية يضمن الشمولية والعدالة والتنافسية، وآفاقًا جديدة للابتكار والتعاون العابرَين للحدود. ويتطلَّب تحقيق هذه الرؤية التزام التعاون الاستراتيجي الطويل الأجل، الذي تجاوز كونه ضرورة اقتصادية صرفة، وأصبح ضرورة استراتيجية لتأدية دور أكثر أهمية في الاقتصاد العالمي.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |