القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
في خضم التحولات الجيوسياسية يبرز مشروع “طريق التنمية” بصفته مبادرة استراتيجية لتعزيز التكامل الإقليمي، والربط بين قارتَي آسيا وأوروبا؛ ويهدف هذا المشروع الطموح -الذي يشمل العراق وتركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر- إلى إعادة تشكيل التجارة والنقل العالميَّين عبر تحسين البنية التحتية لتسهيل حركة النقل والبضائع.
وتكمُن أهمية مشروع “طريق التنمية” في توفيره بديلًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا للمسارات التقليدية مثل مشروع “طريق الحرير” الصيني، وهي خطوة من شأنها أن تقلل التكاليف، وتزيد الكفاءة في نقل البضائع بين الصين وأوروبا.
ويستهدف المشروع ربط ميناء الفاو الكبير في جنوب العراق بالحدود التركية شمالًا عبر خطوط السكك الحديدية والطرق البرية، ممتدًّا على مسافة 1275 كيلومترًا. ومن المتوقع أن يحول المشروع العراق محور نقل إقليميًّا؛ مُوطدًا الروابط التجارية بين أوروبا ودول الخليج، ومحفزًا عددًا من الفوائد الاقتصادية الثانوية للاقتصاد العراقي، مثل تعزيز قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة، وتوفير قاعدة عريضة للنمو الاقتصادي المستدام بعيدًا عن الاعتماد المفرط على النفط. وتشير التوقعات إلى أن المشروع سيسهم في إيجاد نحو 100 ألف فرصة عمل بصورة مباشرة في مراحله الأولى، وتحقيق إيرادات سنوية كبيرة تُقدَّر بـ4.85 مليار دولار.
وسيعود المشروع بفوائد مُتعددة على جميع الدول المشاركة بجانب العراق، الذي يتضح أنه يسعى إلى تنويع اقتصاده، وتعزيز الاتصال الإقليمي، وإعادة وضع نفسه بصفته لاعبًا محوريًّا في ديناميكيات التجارة العالمية؛ فبالنسبة إلى تركيا ستستفيد من تعزيز دورها جسرًا رئيسيًّا بين أوروبا والشرق الأوسط، وترسيخ مكانتَيها الاقتصادية والجيوسياسية. أما الإمارات وقطر، فستحظيان بفرص أكبر لتوسيع شبكات تجارتهما الخارجية، وزيادة صادراتهما الإقليمية، إضافةً إلى توسيع قاعدتَي استثماراتهما الدولية في البنية التحتية والخدمات. وفي المجمل ستجد جميع الدول المشاركة في المشروع فرصة لتعزيز العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف، التي من شأنها الإسهام في استقرار المنطقة، وزيادة النفوذ الإقليمي.
وبطبيعة الحال؛ فإن مشروعًا بهذا الحجم سيواجه تحديات عدَّة قد تعوق تقدمه، وسيكون من المهم تحديدها، واستكشاف الحلول الضامنة لمواجهتها، ونجاح المشروع:
أولًا: التحديات والمعوقات الأمنية في المناطق التي يمُر بها المشروع، واحتمالات نشوء صراعات سياسية وعسكرية فيها؛ ويتطلب التعامل معها تعزيز التعاون الأمني بين الدول المنضمَّة إلى المشروع، وإشراك المجتمعات المحلية في مراقبة البنية التحتية، وتحقيق أمنها.
ثانيًا: التحديات البيئية، مثل التأثير في النظم البيئية المحلية، والتلوث نتيجة لأعمال البناء؛ وتستلزم مواجهتها تطبيق سياسات صارمة للحفاظ على البيئة، وإجراء دراسات تأثير بيئي شاملة قبل البدء في المشروع لتقليل الأضرار البيئية؛ ما يتطلَّب الاستثمار في تقنيات البناء المستدامة والمقللة للانبعاثات الضارة، والمحافظة على الموارد الطبيعية.
ثالثًا: التحديات السياسية والدبلوماسية، وخاصة في ظل الشراكات المُتعددة في المشروع. ولتجنب الخلافات الحدودية، أو التوترات السياسية المحتملة؛ فإن تعزيز الحوار والتفاهم السياسي بين الدول المشاركة، وتنظيم الاتفاقيات المُلزمة، مُكونان ضروريان. ويجب على الدول المنضمَّة إلى المشروع العمل على تطوير آليات للتعاون المشترك، وتأسيس منصات حوارية لحل الخلافات التي قد تنشأ في أثناء تنفيذ المشروع.
رابعًا: التحديات الاقتصادية والمالية، المتمثلة في تأمين التمويل للمشروع؛ وتستلزم الاعتمادَ على مزيجٍ متنوعٍ من التمويلين الحكومي والخاص بصفته حلًّا أكثر فاعليَّة؛ وكذلك تحديد فرص الاستثمار المُربحة، وتقديم حوافز للمستثمرين الدوليين؛ ما قد يسهم في جذب رؤوس الأموال لتمويل مراحل المشروع المختلفة؛ وفي هذا السياق لا بدَّ من وضع آليات لأطر حوكمة صارمة تضمن استخدام الأموال بكفاءة وفاعلية؛ كما تضمن الشفافية والمحاسبة، ولا سيما في مرحلتي المشتريات، وتنفيذ المشروعات.
خامسًا: التحديات الفنية والهندسية التي تشمل التعامل مع التضاريس الصعبة، والظروف الجغرافية المعقدة؛ وستتطلب الابتكار في كل مراحل المشروع، واستخدام التكنولوجيا المتقدمة، مثل الروبوتات، وأنظمة الذكاء الاصطناعي؛ لتحسين الكفاءة، وتقليل التكاليف، إضافة إلى تطبيق معايير صارمة للسلامة والأمان.
سادسًا: الاعتبارات الاجتماعية التي قد تمثل تحديًا مُهمًّا أيضًا؛ إذ قد تؤثر أعمال البناء وتوسعة المشروع سلبًا في المجتمعات المحلية التي ستشمل المراكز الحضرية الكبرى، مثل البصرة وبغداد والموصل. ويجب على الدول المشاركة في المشروع تطوير خطط للتعويض وإعادة التوطين، وبرامج لتحسين المهارات، وتوفير فرص عمل للسكان المحليين؛ لتقليل التداعيات السلبية، وضمان دعم المجتمعات للمشروع؛ ما سيكون له تأثير إيجابي في عاملَي الأمن والاستقرار بالمنطقة، وتعزيز التعاونين الاقتصادي والسياسي بين الدول المشاركة؛ ما يخلق بيئة مواتية لمزيد من الاستثمار والتطوير.
ولا بدَّ أن يظل توفير الحلول الشاملة والمستدامة للتحديات القائمة من الأساسيات التي يجب على مسؤولي هذا المشروع العابر للقارات اعتمادها لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية. وهذه الأهداف يجب أن ترتكز بوجه خاص على تعزيز التجارتين الإقليمية والدولية، وتسريع وتيرة التنمية الاقتصادية، وموازاتها مع الأجندات الوطنية.
ويتطلب تجاوز التحديات المحتملة أيضًا أكثر من مجرد إيجاد حلول؛ إذ يستلزم وجود إرادة سياسية قوية ورؤية استراتيجية موحَّدة بين الدول المشاركة؛ للوصول إلى نموذج جديد للتكامل، يضمن التنمية المستدامة في المنطقة.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |