الحوكمة التكنولوجية للذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي

...
التاريخ: 24 - 10 - 2024

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د. علي محمد الخوري

 

تشهد الصناعات والاقتصادات في جميع أنحاء العالم تحولًا كبيرًا بسبب التقدم السريع للذكاء الاصطناعي. ومع تزايد إدماج أنظمة الذكاء الاصطناعي في أنشطة القطاعين العام والخاص، وعملياتهما التشغيلية، أصبح تأثيرها الاقتصادي واضحًا على نحو ملحوظ.

وتشير تقارير دولية إلى تحوُّل الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسيًّا للنمو الاقتصادي العالمي. ووفقًا لتقديرات مؤسسة البيانات الدولية (IDC) يُتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بأكثر من 19.9 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030؛ أي ما يمثل نحو 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وعلى سبيل المثال، في قطاعات مثل إدارة سلاسل التوريد والتسويق والمبيعات، تثبت الممارسات الحالية أن تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده يمكن أن تسهم بنحو 4.4 تريليون دولار سنويًّا في أرباح الشركات؛ وكذلك يُتوقع أن تشهد قطاعات مثل التجزئة والسلع الاستهلاكية زيادة في الأرباح تتراوح بين 400 و660 مليار دولار سنويًّا اعتمادًا على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

وبحسب تقرير صادر عن شركة “ماكينزي” للاستشارات العالمية، ويتضمَّن تحليلًا لبيانات أكثر من 500 شركة في العالم؛ فإن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في قطاعات مثل الموارد البشرية، والتسويق، والمبيعات، وتطوير المنتجات والخدمات، وسلاسل التوريد، أسهم في تنمية الإيرادات أكثر من 5 في المئة، وتحسينات كبيرة في الكفاءة الإنتاجية والتشغيلية، وتقليل الاعتماد على العمالة البشرية، وتوجيه الموارد المؤسسية بطرق ذكية نحو الأنشطة الأكثر إنتاجيةً وربحيةً، إلى جانب الدور المحوري الذي يؤديه الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، والتنبؤ بالاحتياجات المستقبلية لدعم استراتيجيات الأعمال، واتخاذ القرارات.

وبرغم هذه الآفاق الإيجابية؛ فإن الذكاء الاصطناعي يحمل مخاطر كبيرة، ولا سيَّما في سوق العمل؛ إذ تشير تقديرات إلى أن 40 في المئة من الوظائف العالمية قد تتأثر بتقنيات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، مع تداعيات أكبر تطول الوظائف الروتينية والمتكررة في قطاعات مثل التصنيع والنقل والخدمات اللوجستية. وقد تبلغ نسبة الوظائف المتأثرة في الاقتصادات المتقدمة 60 في المئة، في حين تصل إلى 45 في المئة بالدول العربية؛ ما يعني تأثيرًا محتملًا في أكثر من 130 مليون فرد، ومن ثَمَّ تفاقم مشكلتي البطالة والفقر، ولا سيما في صفوف الفئات ذات المهارات المحدودة.

ولا يُعد التأثير المحتمل للأتمتة في فقدان الوظائف التهديد الوحيد؛ إذ إن غياب هياكل حوكمة قوية وفعَّالة من شأنه أن يعمق هذا التحدي، ويضاعف تأثيرات الذكاء الاصطناعي في المجتمع؛ ذلك أن الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي -من وجهة نظر مراقبين- يثير فعلًا مخاطر اجتماعية وأمنية عالية تتطلب هياكل حوكمة تضمن امتثال الممارسات لمتطلبات حماية حقوق الأفراد، وعدم التمييز، وتطبيق معايير الشفافية والمساءلة. ويتفق كثير من أولئك المراقبين على أن نماذج الحوكمة الحالية غير كافية لمواكبة التطور السريع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مشيرين إلى عدد من المخاطر، مثل الانحياز في الخوارزميات، والقرارات غير الأخلاقية التي قد يتخذها الذكاء الاصطناعي من دون وجود ضوابط كافية.

وبالنسبة إلى صنَّاع السياسات؛ فإن منهجية التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي وفُرصه يجب أن تراعي محاور عدة، أولها مرتبط بالاستثمار في البنية التحتية والمهارات الرقمية؛ ذلك أن البلدان ذات البنية التحتية الرقمية المتقدمة، والقوى العاملة الماهرة؛ ستكون في وضع أفضل للاستفادة الاقتصادية من الذكاء الاصطناعي؛ ويتضح ذلك باحتلال بعض الدول مراكز متقدمة في مؤشر الجاهزية للذكاء الاصطناعي مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي حلت في المرتبة الأولى، تلتها المملكة المتحدة، وسنغافورة، وكندا، وفنلندا، وفرنسا، وألمانيا، وكوريا الجنوبية، وهذه الدول وضعت استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، ولديها استثمارات كبيرة لتطوير هذه التكنولوجيا في القطاعين الحكومي والخاص.

وفي الوقت نفسه ستواجه الأسواق الناشئة تحديات أكبر بسبب البنية التحتية المحدودة، ونقص القوى العاملة الكفؤة رقميًّا فيها. وتفرض معالجة هذه التحديات على الحكومات إعطاء قطاع التعليم والتدريب المهني والتأهيل الرقمي الأولوية الاستثمارية؛ لإعداد كوادر مؤهلة للاقتصاد الذي يقوده الذكاء الاصطناعي.

أمَّا المحور الثاني؛ فيتطلب التركيز على توحيد المعايير العالمية لضمان وجود نموذج حوكمة عالمي لاستخدام الذكاء الاصطناعي؛ إذ يسهم مثل هذا النموذج في منع حدوث فجوات تنظيمية، وتبني ممارسات مسؤولة وأخلاقية؛ كما يضمن توحيد معايير الخصوصية، والشفافية، والمساءلة، أن تكون الأنظمة قابلة للتفسير والفهم، ويقلل احتمالات إساءة الاستخدام أو التلاعب في الخوارزميات التي قد تصدر قرارات غير عادلة أو منحازة؛ نتيجة البيانات غير المتوازنة التي دُربت عليها.

ويدور المحور الثالث حول تصميم الأطر التنظيمية لإيجاد بيئة محفزة للابتكار والمنافسة؛ وذلك لكيلا تتحول ممارسات الحوكمة عائقًا أمام التقدم التكنولوجي، بل تشجع الابتكار المسؤول؛ وهذا يعني أن على صناع السياسات إيجاد التوازن بين الممارسات التنظيمية الحكومية، والمرونة التي تطلبها شركات التطوير، من دون المساس بالمصالح العامة، أو تعريض المستخدمين لمخاطر غير مبرَّرة.

وتُعد الصناديق التنظيمية (Regulatory Sandboxes) أو ما تُعرف بـ”البيئات التجريبية التنظيمية”، من أبرز الممارسات الدولية؛ إذ تتيح للشركات اختبار تطبيقات الذكاء الاصطناعي الجديدة في بيئة خاضعة للرقابة قبل طرحها في السوق. ويوفر هذا النموذج إطارًا يسمح للشركات بتجربة الحلول الجديدة، في وقت تحافظ فيه الحكومات على الرقابة لحماية المصالح العامة، وضمان الشفافية.

ويتعلق المحور الأخير بمعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للذكاء الاصطناعي، وخاصة تلك المرتبطة بسوق العمل؛ فاحتمال إحلال الوظائف لمصلحة الذكاء الاصطناعي كبير جدًّا، وخاصة في قطاعي التصنيع والخدمات اللوجستية؛ بسبب قدرة الذكاء الاصطناعي على تأدية المهام فيهما بكفاءة أعلى، وتكلفة أقل.

ولا شك أن التعامل مع مثل هذه التحولات يستوجب بناء شبكات أمان اجتماعية، مثل برامج التأمين ضد البطالة، والاستثمار في برامج إعادة التدريب والتأهيل لدعم انتقال الأفراد إلى مجالات العمل الناشئة، وإكسابهم مهارات متقدمة.

ويتوقع تقرير لشركة “ماكينزي” اختفاء ملايين الوظائف ذات المهام الروتينية في المنطقة العربية بسبب الأتمتة، في حين يسهم الذكاء الاصطناعي في إحداث نحو100 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2040.

والخلاصة أن الدول التي تستطيع الموازنة بين الابتكار والحوكمة الأخلاقية ستملك قدرة أكبر على الاستفادة الاقتصادية من التكنولوجيا المتقدمة. أمَّا الدول التي تخفق في تحقيق مثل هذه الموازنة؛ فستعرِّض اقتصاداتها لمخاطر التحول السريع من دون وجود ضوابط كافية؛ ما سيؤول بطبيعة الحال إلى تفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية. وقد تجد هذه الدول نفسها أمام تهديدات مزعزعة لدعائم استقرارها مستقبلًا.