القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
تواجه الصحافة المصرية، كغيرها من الصحافات العالمية، تحديات وجودية كبيرة تهدد استمراريتها ودورها في المجتمع. من بين هذه التحديات تراجع مبيعات الصحف المطبوعة، وانخفاض إيرادات الإعلانات، وزيادة استهلاك الأخبار الرقمية، بالإضافة إلى تراجع ثقة الجمهور في وسائل الإعلام.
بحسب التقارير، ارتفعت ديون المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة في مصر لتصل إلى مليارات الجنيهات، في حين أن العديد من الكيانات الخاصة على وشك الانهيار بسبب الضغوط المالية الهائلة.
هذه المعطيات تدعو صانعي السياسات لاتخاذ خطوات جريئة وفعالة لضمان استدامة الصحافة في مصر وإعادة إحياء دورها الحيوي في الخطاب الثقافي والوطني. تكيف الصحافة المصرية مع التطورات التكنولوجية لم يعد اختياراً؛ بل ضرورة حتمية. فالتحول الرقمي في ظل المتغيرات التكنولوجية السريعة غدا أمراً ضاغطاً في ظل انخفاض تداول الصحف المطبوعة بنسبة 30% عالمياً خلال العقد الماضي لصالح المنصات الرقمية.
وتعكس الاتجاهات في مصر ارتفاع نسب استهلاك الأخبار الرقمية 60% خلال السنوات الخمس الماضية. هذه البيانات تتطلب من المؤسسات الصحفية الاستثمار في تطوير منصات رقمية تفاعلية وجاذبة تلبي احتياجات قراء اليوم كأمر بالغ الأهمية للحفاظ على الصلة وجذب قاعدة جمهورية أوسع. كمثال، البودكاست والمحتوى الرقمي هي أدوات جديدة تمثل مستقبل الصحافة والإعلام، ويمكن أن توفر فرص جديدة للمؤسسات الإعلامية للوصول إلى جمهور أوسع وتقديم محتوى أكثر تنوعاً.
استعادة ثقة الجمهور هي التحدي الأكثر صعوبة ولكنه الأكثر أهمية. ثقة الجمهور في وسائل الإعلام الرسمية تراجعت بشكل كبير، حيث يعبر 42% فقط من المصريين حاليًا عن ثقتهم في هذه الوسائل، وهو انخفاض حاد من 70% قبل عقد من الزمن. هذا الانخفاض ليس مجرد ظاهرة محلية، بل هو جزء من اتجاه عالمي حيث أصبحت المنصات الرقمية مساحات رائجة لنشر المعلومات والأخبار من قبل المؤسسات والأفراد العاديين الذي أصبحوا يقومون بأدوار الصحفيين. الالتزام بالمعايير المهنية والدقة في نشر الأخبار بالمعايير المهنية والدقة يمكن أن يساعد في عكس هذا الاتجاه.
كمثال، تناول القضايا المحلية والعالمية التي تهم فئات المجتمع، والصحافة الاستقصائية التي تكشف فرص التطوير في مؤسسات الدولة وأركانها، وتقدم التحليلات المتوازنة والمستقلة، وتعمل بمبادئ الشفافية والمساءلة بشأن مصادر المعلومات وطرق جمع الأخبار داخل المؤسسات الصحفية هي إجراءات مهمة وضرورية لإعادة بناء المصداقية وتوسيع نطاق التأثير.
تظهر بعض التجارب الناجحة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة كيف أن الالتزام بهذه المبادئ ساعدتها في تمتين العلاقة وبناء الثقة مع الجمهور. الاستدامة المالية هي قضية مُلحة. تقف الصحف اليوم أمام متطلب لتنويع مصادر دخلها بعيدًا عن الإعلانات التقليدية، التي شهدت انخفاضًا كبيرًا، حيث انخفضت إيرادات الإعلانات في الصحف المطبوعة بأكثر من 50% في السنوات العشر الماضية.
استكشاف مصادر تمويل جديدة، مثل الاشتراكات الإلكترونية وتقديم المحتوى الحصري، واستخدام البث المباشر والتحليلات الرقمية لتوفير تغطيات شاملة وفورية للأحداث، يمكن أن يخلق بدوره فرص جديدة لتوليد الإيرادات.
اعتماد نماذج أعمال مبتكرة سيساعد المؤسسات الإعلامية على تخفيف المخاطر المالية وبناء أساس اقتصادي أكثر مرونة. مثال على ذلك هو نجاح وسائل الإعلام الدولية التي اعتمدت نموذج الاشتراكات، واستطاعت أن تفتح تدفقات إيرادات جديدة حتى مع تراجع إيرادات الإعلانات. بلغت إيرادات “نيويورك تايمز” من الاشتراكات الرقمية أكثر من مليار دولار في عام 2023.
“التليغراف” البريطانية كمثال آخر، استطاعت أن ترفع عدد المشتركين الرقميين بنسبة 75% خلال عامين، وجذب قراء جدد من خلال تقديم محتوى مميز وحصري خلف الجدار المدفوع. “الفايننشال تايمز” حققت أيضاً نجاحاً ملحوظاً في نموذج الاشتراكات، حيث تجاوز عدد المشتركين الرقميين المليون مشترك في عام 2022، بعد استخدام تطبيق اشتراك منخفض التكلفة لجذب جمهور أوسع، مع الحفاظ على محتوى مميز وحصري للمشتركين الدائمين. نقطة أخرى في سياق الموضوع هو الاستثمار في تطوير المواهب الصحفية بات أمراً أساسياً لإحياء صناعة الصحافة.
كما أن دعم الصحفيين من خلال التدريب المستمر على أحدث مهارات الإعلام والاتصال أمر ضروري. تشير التقارير إلى أن 35% من الصحفيين في مصر يكسبون أقل من متوسط الدخل الوطني، وهو ما يبرز الحاجة إلى دعم مالي وظروف عمل أفضل. تحسين الظروف المعيشية للصحفيين وجعل المهنة جاذبة للمواهب الشابة أمران مهمان.
علاوة على ذلك، ضمان حرية التعبير وحماية الصحفيين من التهديدات والمضايقات سيخلق بيئة أكثر أمانًا وملائمة للتفوق الصحفي. بالإضافة إلى ذلك، تزويد الصحفيين بالأدوات والموارد اللازمة للتفوق في الصحافة الرقمية سيعزز بشكل أكبر جودة التقارير الإخبارية. التعاون الاستراتيجي والتحالفات بين المؤسسات الصحفية والإعلامية يمكن أن يدعم قطاع الإعلام بشكل أكبر.
فتشكيل شراكات تستهدف تسهيل تبادل الموارد والخبرات، يمكن معها إنتاج تقارير استقصائية عالية الجودة وبرامج إعلامية شاملة. بهكذا عمل جماعي، يمكن للمؤسسات الإعلامية توسيع نطاق تأثيرها بل والابتكار في إنشاء المحتوى وتوزيعه، والسماح للكيانات الإعلامية للاستفادة من نقاط قوة بعضها البعض وتخفيف نقاط الضعف لديها أيضاً. إحياء الصحافة المصرية مهمة معقدة ولكنها قابلة للتحقيق.
يتطلب ذلك جهودًا متضافرة من الدولة والمؤسسات الإعلامية وقطاع الإعلام الأوسع لتجديد هذا الركن الحيوي من المجتمع، وضمان استمرار مساهمته في الخطاب الثقافي والفكري والوطني. التحدي كبير، لكن الفرص المتاحة لصحافة مصرية متجددة وقوية تقدم بريقًا واعدًا للمستقبل. العصر الرقمي يتطلب من صناع السياسات تبني استراتيجيات مبتكرة لتحقيق التوازن بين التحول الرقمي والاستدامة المالية، وبناء المصداقية وتشكيل المشهد الثقافي والفكري في المجتمع.
ولكن يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للصحافة المصرية أن تعيد اختراع نفسها لتواكب العصر الرقمي دون أن تفقد جوهرها التقليدي كمصدر موثوق للمعلومات وتقديم محتوى ذو قيمة حقيقية؟ في عصر تنتشر فيه الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة بسرعة الضوء، يمكن أن تكون الصحافة الاستقصائية والملتزمة بالشفافية والمساءلة ليس فقط وسيلة للبقاء، بل أداة لتوجيه المجتمع نحو الحقيقة والنزاهة. الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل الصحافة المصرية ودورها في بناء المجتمع.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |