القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تشهدها المنطقة العربية، أصبح من الضروري فهم العلاقة الاستراتيجية بين سوريا والدول العربية في إطار أكثر تكاملاً. فلا يكفي أن ننظر إلى سوريا باعتبارها دولة تعاني من الأزمات، بل يجب أن نتناولها كجزء لا يتجزأ من الكيان العربي، وندرك أن استقرارها الاقتصادي والسياسي يشكل ركيزة ضرورية لاستقرار المنطقة برمتها. طاولة النقاشات يجب أن تتجاوز فكرة الدعم الآني، ليصل إلى تكوين رؤية أشمل تتبنى مسارات تنموية طويلة الأمد، تتيح لسوريا تجاوز أزماتها وإعادة بناء اقتصاد قادر على المساهمة بفاعلية في المنظومة الاقتصادية العربية.
ولطالما شكلت العلاقات بين سوريا ودول الجوار العربي، وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر، نموذجاً للشراكة الاستراتيجية التي تجمع بين التاريخ المشترك والمصالح الاقتصادية الحيوية. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تطوير هذه الشراكة على نحو يُسهّل انتقالها من مرحلة التعاون التقليدي إلى مستوى أكثر عمقاً يعتمد على الاستثمارات طويلة الأمد. ورغم أن المبادرات الوطنية مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ورؤية الإمارات 2071 تهدف إلى تحقيق تحولات اقتصادية كبرى، إلا أن استراتيجياتها يمكن أن تتسع لتشمل دعم إعادة الإعمار الاقتصادي في سوريا، من خلال مشاريع مشتركة تخدم مصالح كافة الأطراف. إن نموذج التعاون الاقتصادي العربي – إذا ما تم تبنيه بجدية – قادر على تحويل المشهد الاقتصادي لسوريا من الاعتماد على الدعم الخارجي إلى بناء اقتصاد مُنتج، يساهم في تقليص الفجوة الاقتصادية في المنطقة.
وتعد قضية التضخم في سوريا من أكثر التحديات إلحاحاً، حيث أدت الصراعات المستمرة والفساد واحتلال بعض أراضيها التي تحتوي على موارد زراعية ونفطية إلى ارتفاع معدلات التضخم، وتدهور قيمة العملة المحلية، وأثر سلباً على قدرة المواطنين على تحمل الأعباء المعيشية.
تشير التقارير إلى أن معدل التضخم في سوريا قد وصل إلى أرقام غير مسبوقة وليعكس عمق الأزمة الاقتصادية في البلاد. فقد بلغ التضخم في أبريل 2024 120.4%، مع تضخم شهري بنسبة 7.6%.. وبحسب تقرير البنك الدولي في مايو 2024، بلغ معدل الفقر في سوريا 69% من السكان في عام 2022، مع وصول معدل الفقر المدقع إلى 27%.
معالجة مشكلة التضخم تتطلب استعادة السيطرة على الموارد الوطنية وإعادة توجيهها لدعم الاقتصاد المحلي، بالإضافة إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية تهدف إلى كبح جماح الفساد، والذي سيعيد بدوره الثقة للمواطن ويعزز من فرص النمو.
ورغم أن التحديات الحالية تبدو مُعقدة، إلا أن الحلول ليست بعيدة المنال. النهوض بالاقتصاد السوري يتطلب توفير بيئة استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال العربية والأجنبية، وتحسين الإطار القانوني الذي ينظم الاستثمارات، ويضمن حماية الحقوق المالية للمستثمرين، ويوفر آليات واضحة وشفافة لحل النزاعات التجارية. تشير الدراسات العالمية إلى أن البيئات الاستثمارية المحفزة قادرة على اجتذاب رؤوس الأموال التي تساهم في رفع الإنتاجية وتوفير فرص عمل جديدة، والإسهام في الحد من التضخم وتحقيق استقرار اقتصادي على المدى البعيد. لا يمكن التغاضي عن أن رؤوس الأموال تسعى إلى البيئات المستقرة والمنظمة، وحينما تتحقق هذه المعايير، ستصبح سوريا قادرة على جذب الاستثمارات التي يمكن أن تساهم في إعادة بناء بنيتها التحتية وتنويع اقتصادها.
كما تقدم العديد من الدول تجارب ناجحة في تجاوز الأزمات الاقتصادية من خلال سياسات تدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتحرص على توسيع القاعدة الإنتاجية. تعد كوريا الجنوبية نموذجاً مُلهماً، حيث اعتمدت سياسات اقتصادية متكاملة شملت دعم الصناعات الناشئة، وهو ما أتاح لها التحول من اقتصاد نامٍ إلى قوة اقتصادية عالمية. إن تطبيق نموذج مشابه – بعد تكييفه مع الواقع السوري – يمكن أن يشكل أساساً لتعزيز الاقتصاد السوري، وتوفير فرص عمل للشباب، وفتح آفاق جديدة للتنمية المستدامة. دعم هذه الصناعات سيمثل ركيزة أساسية لإعادة بناء الاقتصاد من القاعدة الشعبية، ويمنح المواطنين فرصاً للنمو والمساهمة في بناء وطنهم.
ختاماً، يمكن القول إن الاقتصاد السوري بحاجة إلى رؤية شاملة تتخطى المعالجات المؤقتة وتركز على بناء مؤسسات قادرة على استيعاب التحديات وتحقيق التنمية. التغيير الحقيقي لن يتحقق من خلال المساعدات الخارجية وحدها، بل عبر إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين، واستقطاب استثمارات تعزز من التكامل الإقليمي وتعيد لسوريا مكانتها في قلب الاقتصاد العربي.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |