أبوظبي
المصدر: مفكرو الإمارات
أ.د. علي محمد الخوري
تمثل التضاريس الاقتصادية في المشهد العالمي متاهة مملوءة بالتحديات إلى جانب الفرص المتنوعة؛ فقد شهد العام الماضي تباطؤًا واضحًا في النمو العالمي، كان الأشد منذ 30 عامًا؛ وذلك بسبب السياسات النقدية المُشددة، وأسعار الفائدة المرتفعة التي تطبقها البنوك المركزية لتهدئة التضخم، والتوترات الجيوسياسية.
وبحسب تقرير البنك الدولي سيتباطأ النمو العالمي ليبلغ نحو 2.4 في المئة عام 2024، مقارنة بنحو 2.6 في المئة العام السابق. وسيتضح هذا التباطؤ أكثر في الاقتصادات المتقدمة؛ إذ يُتوقَّع أن ينخفض النمو ليبلغ نحو 1.2 في المئة عام 2024 مقارنةً بـ1.5 في المئة عام 2023. كما يُتوقَّع أن تُسجِّلَ الاقتصادات النامية نسبة نمو تقدر بنحو 3.9 في المئة؛ وهو ما يقل بأكثر من نقطة مئوية واحدة عمَّا سُجِّلَ في العقد السابق.
دور السياسة النقدية
في ضوء هذه المؤشرات يُتوقَّع أن تعيد البنوك المركزية -في مختلف الاقتصادات المتقدمة، والنامية، والناشئة- تقييم استراتيجياتها الاقتصادية، وتغيير سياساتها النقدية في النصف الثاني من عام 2024، وقد يشمل هذا التغيير تخفيفَ تدابير التشديد الصارمة المُطبَّقة للحد من معدلات التضخم، ويُعدُّ هذا التحول في السياسة النقدية عاملًا حاسمًا في تحديد طبيعة التوقعات بالسوق الاقتصادية والمالية لهذا العام؛ ولكنَّ صندوق النقد الدولي يؤكد أهمية إدارة هذا التحول بعناية لتفادي تقلبات الأسواق المالية، ويشدد على ضرورة البحث عن طرق جديدة لتحفيز النمو المستدام.
قانون التوازن في الأسواق المالية
في سياق يشبه السير على حبل متأرجح توكَل إلى الأسواق المالية مهمة دقيقة لتحقيق التوازن بين عوامل عدَّة، أولها تحديد المعدَّل المحايد للفائدة، ومدى توافق السياسات النقدية مع الهياكل الاقتصادية الوطنية والمالية العامة، وثانيها علاوات الأجل المرتبطة بالعوائد على الأصول المالية الآمنة، وقدرة أسواقها المحلية على الاستجابة لتقييم المخاطر والتوقعات الاقتصادية، وأخيرًا التعامل مع التغييرات المحتملة في أسعار الفائدة على المدى الطويل؛ ما قد يضيف عنصر عدم اليقين إلى تحركات أسعار الفائدة مستقبلًا، ويؤثر ذلك في توقعات السوق، وقرارات الادخار والاستثمار. ويمثل هذا الوضع مجموعة من التحديات والفرص المتداخلة للمستثمرين وصناع السياسات على حد سواء، ويشدد صندوق النقد الدولي في هذا الإطار على أهمية اتخاذ قرارات يقظة في هذا المشهد لتعظيم الفرص، وتخفيف المخاطر.
التحديات والفرص في الأسواق الناشئة
في المجمل ستواجه الأسواق الناشئة عام 2024 مجموعة متنوعة من التحديات والفرص التي تحددها الاتجاهات الاقتصادية العالمية، والديناميكيات الداخلية. وتستعد دول مثل الهند والصين للاستفادة من أسواقها المحلية القوية، والتحول نحو الاقتصادات القائمة على الاستهلاك، على النقيض من الدول التي تعتمد على التصدير مثل المكسيك وكوريا الجنوبية وتايوان، وقد تعاني ضعف الطلب العالمي. ويُتوقَّع أن يؤدي اتجاه إعادة التوطين إلى توجيه استثمارات سلاسل التوريد بعيدًا عن الصين إلى الدول الناشئة الأخرى، على الرغم من أن الصين لا تزال تحتل مكانة مهمة في سلاسل التوريد العالمية؛ بفضل خططها للهيمنة على صادرات التكنولوجيا الفائقة.
أمَّا في القطاع المالي؛ فستوفر الأسواق الناشئة فرصًا استثمارية جذابة، ولا سيما في مجال الديون المُقوَّمة بالعملة الصعبة؛ بسبب فروق الأسعار التي ستوفر العائد المرتفع. ويكتَنِف التعقيد سوق الديون بالعملات المحلية، وتتأثر كثيرًا بالسياسات النقدية، والعوامل الخارجية، مثل أسعار النفط، وقوة الدولار الأمريكي. وستمر الأسواق الناشئة بمرحلة تحول جوهرية؛ تتطلب اتخاذ تدابير سياسية قوية لتسخير النمو المحتمل، وتخفيف حدَّة المخاطر، ويؤكد البنك الدولي الحاجة إلى أطر مالية قوية، ولا سيما بالنسبة إلى الدول المصدرة للسلع الأساسية.
توصيات السياسة العامة
في هذه البيئة الاقتصادية العالمية المتداخلة؛ فإن المسؤوليات التي تقع على عاتق صناع السياسات بالغة الأهمية، وشديدة التعقيد؛ إذ تحتاج البنوك المركزية الوطنية إلى تحقيق توازن دقيق في سياساتها النقدية؛ ومعالجة التحدي الكامن في تخفيف معدل التضخم من دون تقييد النمو الاقتصادي، ويتطلب ذلك تكوين فهم دقيق للمشهدين الاقتصاديين المحلي والدولي، وتأثير قرارات السياسة النقدية خارج حدودها المباشرة.
أمَّا بالنسبة إلى الاقتصادات النامية؛ فإن الحاجة مُلحَّة لتعزيز الأطر المالية الوطنية لإدارة التقلبات الاقتصادية، والتحديات التي يفرضها الانكماش الاقتصادي العالمي على نحو أفضل؛ ومن شأن السياسات المالية المدروسة والمتينة أن تزود هذه الاقتصادات بالوسيلة التي تشتد الحاجة إليها لمقاومة الصدمات الخارجية، وتساعد على استقرار بيئاتها الاقتصادية.
وتزداد الحاجة اليوم إلى تعزيز التعاون العالمي أكثر من أي وقت مضى؛ فالطبيعة المترابطة للاقتصاد العالمي اليوم تعني أن تحديات مثل التكامل التجاري، وتغير المناخ، وتخفيف أعباء الديون، لا يمكن معالجتها على نحو فاعل بمعزل عن غيرها، ويبقى تعزيز التعاون والتآزر على المستوى الدولي أمرًا حيويًّا لإنشاء نظام اقتصادي عالمي مستقر ومستدام.
وأخيرًا ينبغي للاستثمار في النمو الطويل الأجل أن يمثل أولوية لجميع الاقتصادات؛ ويستلزم هذا الاستثمار التركيز على الإصلاحات البنيوية، والقطاعات التي تبشر بآفاق نمو طويلة الأمد، مثل التكنولوجيا والطاقة المستدامة والتعليم؛ إذ تدعم الأسس الاقتصادية المرنة استعدادَ الاقتصادات لمواجهة التحديات والفرص المستقبلية.
ولا شك في أن الطريق أمام صناع السياسات محفوفة بالتحديات؛ ولكنها توفر فرصًا لإصلاح السياسات الاستراتيجية، وزيادة التعاون العالمي؛ وتعد السياسات المالية والنقدية المتوازنة، والتركيز على النمو الطويل الأجل، الآليات الأهمَّ لتجاوز الاضطرابات المتوقعة، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |