أبوظبي
المصدر: مفكرو الإمارات
أ.د. علي محمد الخوري
تُعدُّ حروب الجيل الخامس (Fifth-Generation Warfare) تطورًا نوعيًّا في أساليب الصراعات الدولية وأدواتها؛ إذ ترتكز على توظيف التكنولوجيا المتقدمة مثل أنظمة الذكاء الاصطناعي، والأنظمة المستقلة بالكامل (Fully Autonomous Systems)، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية بطرق مبتكرة وغير مباشرة؛ ما يجعلها أحد أخطر أشكال الحروب الحديثة. وما يميز هذه الحروب هو استخدام الأساليب النفسية المتطورة، والهجمات السيبرانية، والتلاعب الممنهَج بالمعلومات؛ مستغلةً الفجوات في الأنظمة الرقمية والأمنية للدول المستهدَفة؛ بهدف نشر الفوضى الفكرية والاجتماعية، وإضعاف الأمن القومي، الذي قد يمتد إلى تهديد الاستقرار في المحيط الدولي.
الأمن الرقمي
وفقًا لتقرير صادر عن شركة أبحاث الأمن السيبراني (Cybersecurity Ventures)؛ فقد ارتفعت الهجمات السيبرانية بنسبة 38 في المئة عام 2023، واستهدفت أساسًا تعطيل البنى التحتية الرقمية الحكومية، مثل شبكات الطاقة والخدمات الصحية، وأنظمة النقل. وتشير إحصائيات في التقرير إلى أن هذه التهديدات السيبرانية تستهدف يوميًّا ملايين الأجهزة والأنظمة الحيوية في العالم، وأن الخسائر العالمية الناتجة منها تجاوزت 8.4 تريليون دولار في عام 2022، مقارنةً بـ5.99 تريليون في العام الذي سبقه.
وتبين تقارير البنك الدولي أن الاقتصادات الناشئة خسرت ما يقارب 12 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي بسبب الهجمات السيبرانية في الأعوام العشرة الأخيرة؛ ما يُظهر التأثير الهائل لهذه الحروب في استقرار الدول النامية، وإضعاف قدرة الأنظمة الوطنية على الاستجابة للأزمات.
السلوك المجتمعي والرأي العام
يُشير دانيال أبوت، الكاتب والباحث الأمريكي المتخصص بالشؤون السيبرانية، في كتابه “دليل حروب الجيل الخامس”، إلى أن هذا النوع من الحروب هو “حرب المعلومات والإدراك”؛ إذ يستهدف التأثير في عقلية المجتمع وسلوكه، وكذا الأفكار والتصورات العامة بدل التركيز على تدمير البنية التحتية المادية.
ويسهِّل عمل هذه الحروب الاعتمادُ المُكثف والمُفرط على التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، الذي سمح بفَهْم الأنماط السلوكية، وتوجيه القرارات الفردية والجماعية، وإنشاء واقع جديد من دون إدراك ووعي كاملَين من الأفراد.
ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد؛ فإن 64 في المئة من الأخبار المُضلِّلة التي تُنشَر عبر الإنترنت تجري مشاركتها من دون تحقُّق. في حين وجدت دراسة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأخبار الخطأ تنتشر أسرع من الأخبار الحقيقية؛ إذ يُعاد نشرها أكثر من الأخبار الصحيحة بنسبة 70 في المئة. وتبين هذه البيانات كيف أن الاستخدام المُمنهج للتقنيات الرقمية يمكن أن يُحول المنصات المعلوماتية أسلحةً استراتيجيةً في الصراعات الحديثة، ولا سيما تلك التي تستهدف التأثير في الرأي العام، وتوجيه السلوك الجماعي.
الهوية الثقافية
تمثل الهوية الثقافية أحد الأهداف الرئيسية لحروب الجيل الخامس؛ خاصةً أن ما تسعى إليه هو إرباك الدول والمجتمعات المستهدفة من الداخل، عبر نشر الأيديولوجيات المتطرفة، وإضعاف القيم الوطنية، وتأجيج الانقسامات الاجتماعية والسياسية. ووفقًا لدراسة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، يعاني 47 في المئة من الشباب في بعض مناطق العالم تراجعًا واضحًا في ارتباطهم بهوياتهم الوطنية؛ نتيجة التأثيرات الخارجية المُمنهَجة التي تسعى إلى إعادة تشكيل وعيهم الثقافي والسياسي. وتؤكد دراسات عدَّة أن الهوية الثقافية أصبحت المستهدَف الرئيسي للحروب المعلوماتية باستغلال وسائل الإعلام الرقمية لإحداث الشقوق الثقافية والاجتماعية داخل المجتمعات.
توصيات
الأمن السيبراني أولوية وطنية
لمواجهة هذه التحديات المُعقدة والمتداخلة يتعين على الحكومات العربية تبني استراتيجيات متكاملة تدمج بين التكنولوجيا، والسياسات العامة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا السياق يجب أن يُعاد تعريف الأمن السيبراني بصفته الدعامة الأساسية لحماية البنى التحتية الوطنية، بل يجب أن يُصبح محورًا أساسيًّا في استراتيجيات الأمن القومي لضمان الأمن والتنمية.
وقد يكون إنشاء القيادات السيبرانية المشتركة وسيلة أكثر فاعليةً لدعم القدرات السيبرانية الوطنية؛ لأنها قد توفر مظلة دفاعية لمجابهة التحديات العابرة للحدود. كما أنه تُمكِن الاستفادة من النماذج الدولية مثل تلك التي تمتاز بها الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا والدول الأوروبية بصفتها نماذج معيارية لدعم القدرات الدفاعية والهجومية، ومنها وضع السياسات الاستباقية القائمة على البيانات والتكنولوجيا المتقدمة.
الأمن الفكري
يجب أن يشمل إطار الأمن السيبراني الأنظمة الفكرية والثقافية والاجتماعية، بحيث يصبح ركيزة لصون الهوية الوطنية والوعي الفكري. والمطلوب هنا هو بناء منظومة فكرية وطنية قائمة على الوعي الجماعي، ومقاومة التأثيرات الخارجية؛ لضمان صمود النسيج المجتمعي في مواجهة الضغوط المختلفة التي تهدد أمن الوطن واستقراره. ويبدأ هذا البناء بتحديث السياسات، ومناهج التعليم، وتمكين المؤسسات المجتمعية، وتطوير المحتوى الوطني الذي يقوم عليه الأمن الفكري والثقافي.
الاستراتيجيات الإعلامية
كما يجب على الحكومات الاستثمار في التثقيف والوعي الإعلامي لتعزيز “المناعة الرقمية” للمجتمعات، بما يشمل تدريب الأفراد على فَهْم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات التي تُستخدَم في التضليل الإعلامي؛ فالمعرفة أداة دفاعية تمثل خط الدفاع الأول أمام حملات التضليل والهندسة الاجتماعية التي أصبحت تعتمد على أساليب متجددة لزعزعة الاستقرار الداخلي في مجتمعات اليوم. ومن هنا؛ فإن وجود استراتيجية إعلامية ذكية ومتكاملة، مدعومة بأدوات تكنولوجية وآليات الأمن السيبراني، يُعدُّ ضرورة مُلحَّة لمواجهة التضليل الإعلامي، والارتقاء بالوعي المجتمعي، وضمان استدامة الجهود الوطنية.
وإلى جانب منصات الإعلام الرقمية الوطنية والحملات التوعوية؛ وكما ورد في السياق السابق؛ فمن المهم التركيز على إدراج التثقيف الرقمي في المناهج التعليمية والمبادرات الثقافية؛ لربط الشباب بالقيم والهوية الوطنية، وبناء وعي مجتمعي قادر على مقاومة التلاعب الثقافي والنفسي، الذي أصبح متأصلًا في تصميم عدد من منصات التواصل الاجتماعي.
الشفافية والثقة
لا بدَّ أن تعتمد الاستراتيجيات الإعلامية على بناء قنوات تفاعلية للاتصال والتواصل بين المواطنين ومؤسسات الدولة؛ وذلك لأن الشفافية مطلب أخلاقي، وأداة استراتيجية لبناء الثقة وتقوية النسيج الاجتماعي؛ ففي ظل عالم تتزايد فيه المخاطر الداخلية والخارجية، تصبح الثقة هي الحصن الذي يقي المجتمعات الانزلاق نحو الفوضى. وتؤكد دراسات بحثية أن الدول، التي تتمتع بمستويات عالية من الثقة الاجتماعية والمؤسسية، تكون أكثر قدرةً على الصمود في وجه الهجمات السيبرانية، وحملات التضليل الإعلامي.
إشراك القطاع الخاص
في هذا الإطار يُعدُّ إشراك القطاع الخاص في حماية المجتمع وتعزيز وحدته عاملًا محوريًّا؛ لكونه يوظف أكثر من 80 في المئة من سكان المنطقة العربية، أي نحو 120 مليونًا في أقل تقدير؛ ومن هنا يتعدى هذا القطاع كونه أداة اقتصادية، وأصبح شريكًا استراتيجيًّا يستطيع تأدية دور جوهري في توجيه المجتمع نحو مزيد من التماسك الاجتماعي والوعي الوطني، عبر مبادرات المسؤولية الاجتماعية، وتطوير برامج توعوية تستهدف تعزيز الانتماء الوطني، وتقوية الروابط الثقافية والاجتماعية.
كما أن القطاع الخاص يجب أن يكون شريكًا رئيسيًّا في تأمين البنية التحتية الرقمية عن طريق الابتكار، والاستثمار في تطوير الحلول التكنولوجية، ورعاية المبادرات التدريبية لتأهيل الكفاءات المحلية، ودعم أنظمة الحماية الرقمية الوطنية.
الأطر القانونية والتنظيمية الدولية
منطقيًّا لا تُمكِن مواجهة تحديات حروب الجيل الخامس بشكل مُنفرد؛ بمعنى أن هناك حاجة مُلحَّة إلى تعاون إقليمي متعدد الأطراف لإرساء إطار قانوني وتنظيمي يضع حدودًا واضحة لاستخدام التقنيات الحديثة، ويضمن التزام المعايير الأخلاقية للاستخدام الآمن والمستدام للتكنولوجيا. وإضافةً إلى ذلك؛ فإن القوى العالمية الكبرى لا بد أن يكون لها دور قيادي في التعاون على هذا الصعيد، ليس من منطلق حماية مصالحها الوطنية فقط، بل لحماية النظام الدولي قاطبةً؛ فتبنِّي رؤية مشتركة تقوم على تعزيز السلم، والتوجه نحو الحلول الدبلوماسية المستدامة، ضرورتان استراتيجيتان للخروج من دوائر الاستخدام غير المنضبط للتكنولوجيا، الذي قد يؤدي إلى انهيار النظام العالمي القائم، ولإنشاء مسارات جديدة تُرسخ الاستقرار والتعاون الدوليَّين.
الاستعداد للمستقبل
ختامًا، بينما لا تزال الدول تواجه التحديات المعقدة التي تفرضها حروب الجيل الخامس، تلوح في الأفق ملامح مرحلة جديدة من الصراعات تتمثل في حروب الجيل السادس التي بدأت الأوساط الأكاديمية والعسكرية تتناولها في الأعوام الأخيرة مع تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية. وتتميز هذه الحروب بأنها تقوم على استراتيجية “الاستهداف الشبكي” الذي يركز على تعطيل البنية التحتية والأنظمة الحيوية، ومنها القدرات الدفاعية في الدول المستهدَفة؛ ولا شك أن نطاق التأثير سيكون عميقًا جدًّا في عالم باتت التكنولوجيا تمثل عموده الفقري.
ويعتمد نجاح الدول في المواجهة ومواكبة المتغيرات التي تفرضها هذه الحروب، على قدرتها على بناء السيناريوهات الاستباقية، واعتماد سياسات مبتكرة لبناء مجتمع متماسك ومُحصن فكريًّا وثقافيًّا من الداخل.
وعلى المستوى المفاهيمي لا يمكن ضمان الأمن على المستويَين الوطني والعالمي في المستقبل إلا إذا استند إلى أُسس من الفهم والإدراك العميقين للتحولات الجارية، والتركيز على إعداد استراتيجيات تدمج بين التوظيف الأمثل للتكنولوجيا، وتعزيز المناعة الفكرية والثقافية، وترتقي بالوعي المجتمعي. والحكومات أمام مطلب واضح يكمُن في بناء رؤية استشرافية تضع حماية الحدود السيبرانية والأمن الفكري والاجتماعي في مقدمة أولويات الاستراتيجيات الوطنية؛ لتأمين الاستقرار، والقدرة على مواجهة المخاطر الناشئة.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |