الإنسان المعاصر والثورة الرقمية

...
التاريخ: 31 - 12 - 2024

أبوظبي

المصدر: جريدة الاتحاد

مفكرو الإمارات

أ.د. علي محمد الخوري

اجتاحت العالم، في العقدين الأخيرين، ثورة رقمية أعادت تشكيل العلاقات الإنسانية، والاقتصادية، والثقافية، وأسست لنمط جديد من الاقتصاد الرقمي والتحولات الاجتماعية العميقة. وهذه الثورة لم تكن مجرد سلسلة من الابتكارات التقنية أو التطورات التكنولوجية المعزولة عن السياقات البشرية والاجتماعية فقط، بل تحولاً نوعياً شاملاً أثر في جميع مفاصل الحياة. وفي «الوطن العالم»، حيث تسود تطلعات الشباب نحو التحديث والتغيير، تمخضت هذه الثورة الرقمية عن فرص واعدة للنمو والابتكار، ولكنها في الوقت نفسه أوجدت تحديات غير مسبوقة أمام المجتمعات والحكومات، تمحورت تحديداً حول قضايا الهوية الثقافية، والخصوصية الرقمية، والتماسك الاجتماعي.

الهوية الثقافية
وفقاً لأدبيات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإن الهوية الثقافية ليست مفهوماً ثابتاً، بل هي بناء ديناميكي يتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. ومع الانتشار السريع للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية، أُتيحت للشباب فرص الانفتاح على ثقافات العالم، بيد أن هذا الانفتاح -على الرغم من إيجابياته- أثار تساؤلات عميقة عن مدى تأثير هذه الثورة الرقمية في القيم المحلية.
وتُظهر دراسات حديثة -أُجريت في بعض الدول العربية- العلاقة الطردية والمتشابكة بين اتساع قاعدة مستخدمي المنصات الرقمية، وضعف ارتباط الشباب بالقيم الثقافية التقليدية، وتزايد تبنّيهم مفاهيم جديدة من خارج النطاق المحلي لا تتوافق بالضرورة مع الجذور الثقافية للمجتمعات.
ويُضاف إلى ذلك الاستخدام الموسع والمُمنهج للخوارزميات التي تتعمد تقديم محتوىً مُصمماً للتأثير في سلوك الأفراد، وإرساء ما يسمى «فقاعات الترشيح» (Filter Bubbles)، وهي ظاهرة أنتجتها الخوارزميات الرقمية التي تُظهر محتوىً متوافقاً مع اهتمام الأفراد وسلوكهم على «الإنترنت». وهذه الظاهرة تقلل تعرض الأفراد لوجهات النظر الأخرى، وتدفع إلى العزلة الفكرية، وتكريس تصورات أُحادية الجانب بشأن القضايا المختلفة.

الخصوصية الرقمية
تُعد الخصوصية الشخصية مسألة جدلية مُعقدة أخرى تتصادم فيها رغبة الأفراد في حماية بياناتهم، واندفاع الشركات التكنولوجية لاختراق الحدود غير المرئية. وقد أصبحت البيانات هي السلعة الجديدة الأكثر قيمة، مع تزايد ممارسات جمع بيانات المستخدمين وتحليلها، في سبيل تحقيق مكاسب اقتصادية. ولا تقتصر أهداف هذه الممارسات على الإعلانات المُوجهة فقط، بل تمتد إلى التأثير في اختيارات الأفراد وسلوكهم، حتى قيمهم أيضاً.
وفي السياق العربي، مع غياب تشريعات صارمة لحماية البيانات، والافتقار إلى الآليات التنفيذية في ظل توسع المنصات الدولية في الأسواق المحلية، تزداد المخاوف من إمكانية استغلال هذه البيانات للتأثير في أنماط الحياة الخاصة واختيارات الأفراد، ما قد يعمق الأزمة الثقافية والاجتماعية، أي إنه إذا استمر تجاهل أهمية وضع قوانين وطنية واضحة تحمي الخصوصية الرقمية، وتفرض الشفافية على شركات التكنولوجيا، فستبقى المجتمعات العربية عُرضة لتداعيات خطِرة تهدد خصوصيتها وهويتها الثقافية.

التماسك الاجتماعي

تشمل الآثار الاجتماعية، التي أحدثتها التكنولوجيا الرقمية أيضاً، تراجع التفاعل الإنساني المباشر، وهو عنصر أساسي في بناء التماسك الاجتماعي. وتشير دراسات في علم النفس إلى أن التفاعل المباشر عامل محوري في بناء الثقة والتواصل الفعّال بين الأفراد، في حين أن التفاعل الرقمي يميل إلى إيجاد علاقات سطحية خالية من العمق الإنساني. ومع انتقال أغلبية التفاعلات اليومية إلى منصات رقمية افتراضية، باتت هناك رقعة متنامية من شريحة الأفراد الذين يعانون الشعور بالوحدة والاكتئاب والقلق والانفصال النفسي، وانحسار الروابط الاجتماعية.
وتنحو معدلات الاكتئاب والقلق بين الشباب العرب منحىً تصاعديّاً، إذ تشير إحصائيات ودراسات أُجريت في دول عربية إلى أن عدداً متزايداً من الشباب باتوا يعانون مستويات مرتفعة من القلق، بسبب الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. ولا يهدد هذا الانفصال النفسي الصحة النفسية للأفراد فقط، بل يؤثر في استقرار المجتمعات وتماسكها أيضاً.

توصيات لصانعي السياسات

من الواضح أن استيعاب التحديات الناجمة عن الثورة الرقمية يتطلب بناء إطار استراتيجي لا ينظر إلى التكنولوجيا بصفتها أداة للنمو الاقتصادي فقط، بل وسيلة للتنمية الشاملة أيضاً بمختلف أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويجب أن يرتكز هذا الإطار على تحقيق التوازن بين هذه الأبعاد، والتصدي لظاهرة الاستقطاب الفكري، التي تسعى إلى عزل أفراد المجتمع عن الهوية والقيم المشتركة، وإضعاف الشعور بالانتماء، والتأثير في استقرار المجتمعات. وتوضح المحاور الآتية الاتجاهات العامة التي يمكن أخذها في الحسبان ضمن هذا الإطار.

التشريعات والسياسات الوطنية

أبرز ما يحتاج إليه راسمو السياسات في العالم العربي هو تصميم تشريعات وطنية تراعي الأبعاد المختلفة، ولا سيَّما المرتبطة بحماية الخصوصية الرقمية، وضمان عدم استغلال البيانات لأغراض تجارية أو سياسية من دون موافقة واضحة وصريحة من المستخدمين. ومن الضروري أن يترافق ذلك مع إنشاء هيئات رقابية مستقلة لضمان الامتثال لهذه التشريعات. ويُعد نموذج اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي (GDPR) مرجعاً مُهمّاً تُمكِن الاستفادة منه في صياغة القوانين المحلية الوطنية والعربية. كما أن وجود منصة حكومية موحدة تُتيح للمواطنين التحكم في بياناتهم ومراجعة كيفية استخدامها، أمر جدير بالدراسة والتنفيذ على غرار الممارسات العالمية المتبعة حاليّاً لرفع مستوى الشفافية والثقة بين الأفراد والمؤسسات.

المحتوى الرقمي
في مسار موازٍ، فإن من الأهمية بمكان الاستثمار في تطوير منصات رقمية وطنية تقدم محتوىً مُجوّداً، وتشجيع إنتاج المحتوى الهادف والمُلهم الذي يرفع الوعي بقضايا المجتمع، ويعكس الهوية الثقافية والقيم المحلية. ويمكن أن يتمثل هذا الدعم في تأسيس صناديق تمويلية لدعم الاستثمار في المشروعات الشبابية، وتوفير الحاضنات والحوافز لإشراك الشباب في إنتاج محتوىً يُبرز القيم الأخلاقية والثقافية، والابتعاد عن الأنماط السائدة في منصات التواصل الاجتماعي، التي تفتقر غالباً إلى العمق، وتسهم في تشويه الفكر والذوق العام.

التربية الرقمية
يتطلب الحد من ظاهرة العزلة الرقمية تطوير المناهج التعليمية، وإدخال مادة «التربية الرقمية»، وهما مطلبان استراتيجيان للارتقاء بوعي الشباب بشأن أهمية التوازن بين العالَمين الرقمي والواقعي. ويجب أن ترتكز المناهج على مفهوم «الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا»، وتتناول مسائل إدارة الوقت والخصوصية والأمن السيبراني، وتطوير مهارات التفكير الناقد لتمييز المحتوى، وتجنب الانحصار في دوائر معلوماتية أو فكرية محدودة قد تؤدي إلى تحيزات معرفية. ومن الضروري أيضاً دعم البرامج والأنشطة التفاعلية المباشرة والواقعية، التي تُقلل الاعتماد الكلي على التكنولوجيا، كالفنون، والرياضة، والأنشطة التطوعية.

المجتمع المدني
لا بدَّ أن يكون للمؤسسات الحكومية والمجتمع المدني دور فاعل في إشراك أفراد المجتمع، سواء عن طريق الفعاليات المحلية أو الأعمال التطوعية، التي تُسهم في بناء روابط اجتماعية قائمة على التعاون وخدمة المجتمع، ذلك أن طبيعة الفعاليات الحالية تفتقر غالباً إلى عمق المضمون، وتتسم بضعف التأثير في أنماط التفكير والسلوك، الذي يدفع الأفراد إلى التفاعل الإيجابي مع محيطهم. والمطلوب هنا هو إشراك شرائح أوسع من المجتمع، والتركيز على إيجاد مساحات تفاعلية لتمكين الأفراد من التعاون والمشاركة الجماعية النشطة، في إطار محافظ على الموروث الثقافي والقيم المشتركة.

الأسرة
يظل دور الأسرة أساسيّاً في بناء المجتمع وتماسكه، والحفاظ على الروابط الاجتماعية والصحة النفسية للأفراد، نظراً إلى أنها المؤسسة الأولى التي تُشكل الوعي الفردي، وتُكسِبه القيم والسلوكيات. وهذا الدور يتجاوز إطار التوجيه والمراقبة، ويمتد إلى إشراك الأسرة بصفتها طرفاً فاعلاً في جهود بناء مجتمع متوازن يعزز القيم الإنسانية، ويرسخ مفهوم الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا، ولذا، فإن دور الدولة يبدأ من توعية الآباء والأمهات، وإيصال هذه الرسالة المهمة إليهم، وتمكينهم من تحقيق هذا الدور بجميع السبل والطرائق، التي تتراوح بين الأدوات التكنولوجية والمناهج التربوية، فضلاً عن الانتقال بالأبوين إلى مرحلة من النضج المبكر تُمكّنهما من إدارة شؤون الأسرة بحكمة.

تكاملية الحلول
ختاماً، تستدعي مواجهة تحديات الثورة الرقمية مقاربة شاملة تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والتكنولوجيا، بحيث ترتكز السياسات الوطنية على تحقيق التوازن بين الانفتاح، والتنمية التكنولوجية، والحفاظ على الهوية الثقافية والقيم الأخلاقية. ومن التوصيات المقترحة هنا إنشاء هيكل متماسك تستند أعمدته بعضها إلى بعض، وتتكامل فيما بينها، ما يضمن تحقيق نتائج ملموسة وقابلة للاستدامة، وترسيخ مفهوم المواطنة الرقمية الإيجابية.