معضلة الأمن الديموغرافي في الوطن العربي

...
التاريخ: 15 - 02 - 2025

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

تُعد قضية الأمن الديموغرافى واحدة من أكثر القضايا حساسية وتأثيرًا على مستقبل التنمية والاستقرار فى الوطن العربى، وهى تمثل تحديًا رئيسيًا أمام صانعى القرار. تتجلى هذه القضية بوضوح فى المجتمعات العربية، والمتمثلة فى التغيرات السكانية والتحولات الديموغرافية التى تتداخل بشكل مباشر مع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية. هذه التغيرات قد يراها البعض بعدسة المؤشرات العددية التى تظهر الزيادة والانخفاض فى أعداد السكان وتوزيعهم، ولكنها فى الحقيقة تحمل فى طياتها أبعاد عميقة تتجاوز الأرقام، وتؤثر على الكيفية التى تتطور وتنتظم بها المجتمعات، لتشكل أساسًا لفهم واستشراف مستقبل المجتمعات.

وفقًا للبيانات الحديثة، يبلغ عدد سكان الدول العربية حوالى 450 مليون نسمة، مع تفاوت معدلات النمو السنوى بين الدول، حيث تتراوح بين 0.85% فى بعض الدول، مثل تونس والمغرب، إلى ما يقارب 3% فى دول أخرى كاليمن والسودان. كما شهدت المنطقة العربية انخفاضًا فى متوسط معدل الخصوبة ليصل إلى 3.2 طفل لكل امرأة، وهو أقل بكثير مما كان عليه فى العقود السابقة، حيث كانت معدلات الخصوبة تصل إلى 6 أطفال لكل امرأة فى بعض الدول. هذا الانخفاض، وإن كان يعكس تحولًا فى أنماط الحياة وثقافة المجتمعات نحو تقليل حجم الأسرة، إلا إنه يثير تساؤلات جديدة حول مستوى التوازن الديموغرافى المطلوب، فتراجع معدلات الولادة سيؤدى إلى تقليل نسبة الشباب فى المجتمع وزيادة نسبة كبار السن، وسيضع ضغطًا متزايدًا على الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة فيما يتعلق بتأمين العمالة الكافية لدعم النمو الاقتصادى وتوفير الخدمات الأساسية.

التحديات لا تقف عند حدود انخفاض معدلات النمو السكانى، بل تتسع لتشمل التغيرات فى التركيبة العمرية للسكان. ومع ارتفاع متوسط العمر المتوقع إلى 77.5 عام، يزداد عدد كبار السن بشكل ملحوظ، ليفرض أعباء متزايدة على أنظمة الرعاية الصحية وصناديق التقاعد. هذه التحولات تُنذر بظهور فجوات اقتصادية واجتماعية قد تكون لها تداعيات على قدرة الدولة على تحقيق التنمية المستدامة وتأمين الاستقرار الداخلى للمجتمع.

فى الوقت نفسه، يُبرز التوزيع الجغرافى للسكان تفاوتًا واضحًا بين المناطق الحضرية والريفية. يعيش حوالى 60% من السكان فى المدن الكبرى، حيث تتركز فرص العمل والخدمات الأساسية، بينما تعانى المناطق الريفية من نقص فى البنية التحتية والخدمات. هذا التفاوت يشجع الهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر، ويزيد الضغط على المدن ويُفاقم التحديات التنموية، فى حين تبقى المناطق الريفية عاجزة عن الاستفادة الكاملة من مواردها البشرية والطبيعية.

أمام هذه التحديات، يصبح من الضرورى إعادة النظر فى السياسات التنموية والديموغرافية بشكل شامل واستراتيجى. ومن الممكن الاستفادة من التحولات الديموغرافية إذا ما تم التعامل معها كفرص لدعم التنمية المستدامة. الاستثمار فى التعليم والتدريب المهنى يمثل حجر الزاوية فى مواجهة التحديات المرتبطة بالقوى العاملة. من خلال تأهيل الشباب لتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة، يمكن للدول العربية الارتقاء بمستوى الإنتاجية الاقتصادية والحد من الحاجة إلى العمالة الأجنبية.

من ناحية أخرى، يجب أن تتبنى السياسات الصحية نهجًا استباقيًا فى التعامل مع شيخوخة السكان. الاستثمار فى خدمات الرعاية الصحية المُبتكرة، مثل الرعاية المنزلية وتقنيات الذكاء الاصطناعى لتحسين كفاءة التشخيص والعلاج، يمكن أن يخفف من الأعباء على النظام الصحى ويضمن جودة حياة أفضل لكبار السن.

التحديات التى تواجه الأمن الديموغرافى ليست مجرد مُعضلة محلية، بل هى قضية ذات أبعاد إقليمية وعالمية. التعاون فيما بين الدول العربية لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات هى خطوة ضرورية لمواجهة هذه التحولات والتعامل معها بشكل جماعى، كما أن الشراكات مع المنظمات الدولية يمكن أن يوفر الدعم الفنى والمالى للمشاريع التنموية التى تستهدف مُعالجة هذه القضايا.

إجمالًا، ما يجب أن يُنظر إليه هو أن الأمن الديموغرافى عنصر استراتيجى فى صياغة السياسات الوطنية. الدول العربية ككل ستكون فى مواجهة أزمة ديموغرافية ولكن ذلك قد يمثل فرصة لإعادة تشكيل الأولويات التنموية على أسس أكثر شمولًا واستدامة. ففى عالمٍ تتغير معادلاته بسرعة، يبقى التخطيط طويل الأمد القائم على رؤى استشرافية للتغيرات السكانية هو المفتاح للتعامل مع هذه التحديات وتحويلها إلى فرص حقيقية للنهوض بالمجتمعات.