القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
في ظل التحديات الكبرى التي تواجه العالم العربي، يبدو أن الذكاء الاصطناعي قد يحمل بين طياته حلاً لمعضلة التشظي التي أنهكت المنطقة لعقود. هذا التشظي الذي يتمثل في التباعد السياسي والاقتصادي والثقافي بين الدول العربية يعكس مشكلة أعمق تتعلق بالقدرة على تحقيق التكامل والتنمية المستدامة. ومع التطور السريع للذكاء الاصطناعي عالميًا، تبرز أسئلة حيوية عما إذا كان هذا التطور التكنولوجي بإمكانه أن يصبح أداة فاعلة في رأب الصدوع التي يعاني منها العالم العربي، وتحويلها إلى قوة دافعة نحو التكامل والاستقرار.
قطاع التعليم يمثل ميدانًا مهماً يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي فيه عاملًا ثوريًا لتجاوز الفجوة التعليمية التي تعاني منها العديد من الدول العربية. منصات التعليم الرقمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي يمكنها توفير محتوى تعليمي مُخصص، يلبي احتياجات الطلاب في المناطق الريفية والنائية، حيث تتوفر الموارد التعليمية بشكل محدود. تشير الأبحاث إلى أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم يمكن أن يساهم في توسيع نطاق الوصول إلى التعليم بنسبة 30%، وهو ما يشير إلى إمكانية حقيقية لتحسين جودة التعليم، وتقليص الفجوة في رأس المال البشري، وهو أمر بالغ الأهمية لمستقبل المنطقة.
كما ويشكل الذكاء الاصطناعي رافعة محتملة لتعزيز التكامل الإقليمي. فمع الاعتماد المتزايد على التجارة الإلكترونية وتحليل البيانات، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في تحسين كفاءة سلاسل الإمداد، وتقليل تكاليف التجارة البينية. تشير التقديرات إلى أن توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الاقتصادية يمكن أن يخفض التكاليف التشغيلية بنسبة تصل إلى 20% في العمليات اللوجيستية، ويدعم الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بنسبة تصل إلى 7% بحلول عام 2030. هذا التوظيف قد يتمثل في بناء المنصات الإلكترونية المشتركة لدعم التجارة بين الدول، وتوفير البيانات الدقيقة عن الأسواق المحلية والإقليمية. هذه الإمكانات من شأنها تدعيم القدرات التنافسية للشركات العربية في الأسواق العالمية، وفتح آفاق جديدة للاستثمار في القطاعات التكنولوجية والصناعية، وتقليل الاعتماد على القطاعات التقليدية مثل النفط والغاز.
الأثر الأكبر للذكاء الاصطناعي قد يظهر في تطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات العامة. استخدام الخوارزميات المتقدمة لتحليل البيانات وإدارة الموارد بكفاءة أكبر، سيسهم في تقليل الهدر وتحسين جودة الحياة. تعتمد العديد من المدن حول العالم على أنظمة ذكاء اصطناعي لتحديد أولويات مشروعات البنية التحتية بناءً على احتياجات السكان، وهو ما يمكن أن يمثل نموذجًا قابلاً للتطبيق في المدن العربية.
على الرغم من هذه الإمكانات، يواجه العالم العربي تحديات هيكلية قد تحول دون تحقيق الاستفادة القصوى من ثورة الذكاء الاصطناعي. يبرز النقص في قواعد البيانات المحلية كأحد أبرز العقبات، حيث أن الذكاء الاصطناعي يعتمد بشكل كبير على كميات ضخمة من البيانات الدقيقة لتطوير نماذج تعلم فعالة. هذا النقص يعكس غياب الاستراتيجيات الوطنية لجمع البيانات وتنظيمها. علاوة على ذلك، فإن الفجوة الرقمية بين الدول العربية، والتي تتراوح بين دول متقدمة تكنولوجيًا مثل الإمارات والسعودية، وأخرى تعاني من ضعف البنية التحتية الرقمية، تزيد من صعوبة تحقيق التكامل التكنولوجي.
جانب آخر لا يقل أهمية هو الاعتماد المفرط على التكنولوجيا المستوردة. هذا الاعتماد يضع الدول العربية في موقع التبعية التكنولوجية، حيث تعتمد على منصات وبرمجيات أجنبية لا تخدم بالضرورة احتياجات المنطقة الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، تثير هذه التقنيات مخاوف تتعلق بأمن البيانات والخصوصية، حيث تبقى البنية التحتية المحلية غير مجهزة بشكل كاف لحماية المعلومات الحساسة.
لتجاوز هذه التحديات، يتطلب الأمر استراتيجيات وطنية جريئة وشاملة. تحتاج الدول العربية إلى توسيع استثماراتها في البحث والتطوير، والتركيز على تطوير الحلول المحلية المتناسبة مع احتياجاتها الخاصة. هذه الاستثمارات لا يجب أن تقتصر على جانب تطوير التقنيات، بل أن تشمل أيضًا بناء القدرات البشرية، وتدريب الشباب على مهارات الذكاء الاصطناعي وتطوير البرامج التعليمية الحديثة التي تعكس التغيرات التكنولوجية. من الضروري أيضًا العمل على التعاون الإقليمي لإنشاء مراكز أبحاث مشتركة، تكون بمثابة منصات لتبادل الخبرات وتطوير حلول تقنية موجهة للمنطقة.
على المستوى العالمي، يمكن للعالم العربي الاستفادة من الشراكات الاستراتيجية مع الدول الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، والتي يجب أن تتجاوز الطابع الشكلي إلى إطار عملي وفعّال يرتكز على تحقيق نتائج ملموسة، ومبنية على أسس متوازنة تحقق مصالح جميع الأطراف. مثل هذه الشراكات يمكن أن تتيح نقل المعرفة وتوطين التكنولوجيا وبناء الكفاءات المحلية.
في ختام القول، يمتاز الذكاء الاصطناعي بقدرته التكيفية، مما يجعله أكثر من مجرد تقنية؛ إذ يمكن تصميم تطبيقاته بما يتوافق مع الخصوصيات المحلية والتحديات التي تواجهها المنطقة، والاستفادة من الفرص المتاحة. من هذا المنطلق، يمثل الذكاء الاصطناعي أداة استراتيجية يمكن أن تسهم في إعادة صياغة أولويات المنطقة، وتحقيق رؤى تمتد من المحلية إلى الإقليمية والدولية. وينبغي لصناع القرار أن ينظروا إلى الذكاء الاصطناعي كقوة دافعة في استراتيجيات التنمية الوطنية، قادرة على صناعة الفارق المأمول، وتحقيق الاستقرار، ودعم مسارات التنمية الشاملة بطرق مستدامة وفعالة.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |