المنعطفات الحاسمة في العالم العربي

...
التاريخ: 03 - 03 - 2025

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

يشهد العالم العربي تحولات عميقة ومتسارعة تُشكل مستقبل المنطقة، حيث تتقاطع التغيرات الديموغرافية والمناخية، مع الأزمات السياسية والتحولات الرقمية. هذه التغيرات لا تقتصر على كونها تحديات مُجردة، بل تحمل في طياتها فرص غير مسبوقة تتطلب تكوين فهم دقيق ورؤية استراتيجية شاملة من صناع القرار.

النمو السكاني في العالم العربي يمثل أحد المحركات الأساسية لهذه التحولات. فقد بلغ عدد سكان المنطقة 450 مليون نسمة، مع كون الشباب يشكلون أكثر من 60% من هذا العدد. هذا التركيب الديموغرافي يُمكن أن يكون مصدر قوة أو عبئًا حسب كيفية استثماره. فمن ناحية، يمكن لهذه الطاقة البشرية أن تُصبح محركًا للنمو الاقتصادي والابتكار إذا ما تم الاستثمار في التعليم النوعي والتدريب المهني، وريادة الأعمال، ودعم التكنولوجيا والرقمنة لخلق فرص العمل والارتقاء بالإنتاجية الاقتصادية. من ناحية أخرى، الزيادة السكانية تشكل ضغوطًا هائلة على التعليم وسوق العمل والبنية التحتية. على سبيل المثال، تُعد معدلات البطالة بين الشباب في الدول العربية الأعلى عالميًا، حيث تصل إلى 25% مقارنة بمعدل عالمي لا يتجاوز 13%. هذا الواقع يتطلب إعادة هيكلة شاملة لأسواق العمل وبرامج التدريب المهني لمواكبة التطورات التكنولوجية والاحتياجات الاقتصادية المستقبلية.

ضمن سياق آخر، التغيرات المناخية تُلقي بظلالها الثقيلة على المنطقة العربية، وهي من بين الأكثر تأثرًا بارتفاع درجات الحرارة وشح المياه وتدهور الأراضي الزراعية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يُتوقع أن يزداد نقص المياه بنسبة 50% بحلول عام 2050، ليهدد الأمن الغذائي ويزيد من احتمالية النزاعات على الموارد الطبيعية. في حقيقة الأمر، الأمن المائي والغذائي ليس فقط مسألة بيئية، بل هو ركيزة أساسية للاستقرار الاجتماعي والسياسي. التعامل مع هذا التحدي يتطلب تبني تقنيات حديثة للري وإدارة المياه، بالإضافة إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة لتعويض التحديات التي يفرضها المناخ على القطاعات التقليدية.

على الصعيد السياسي، تتعمق الأزمات مع تصاعد النزاعات المسلحة وتزايد التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة. النزاعات الممتدة في سوريا واليمن وليبيا، إلى جانب الاضطرابات المستمرة في فلسطين، لم تقتصر على خلق أزمات إنسانية كارثية وتشريد الملايين، بل أثرت بشكل جذري على بنية الدولة الوطنية ومفهوم السيادة. هذا الواقع يتطلب أكثر من أي وقت مضى، استراتيجيات شاملة تعتمد على تحقيق توازن داخلي وإقليمي، والعمل على إنهاء التدخلات الخارجية التي تضيف تعقيدًا إضافيًا للمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.

التحول الرقمي في المنطقة العربية يُعد أحد أبرز ملامح المرحلة الراهنة. ارتفاع نسبة استخدام الإنترنت من 35% في عام 2013 إلى أكثر من 70% في 2023 يعكس التغير في أنماط الحياة والتعاملات الاقتصادية والاجتماعية. الاقتصاد الرقمي بات يشكل فرصة هائلة لتنويع مصادر الدخل، خاصة في دول الخليج التي تسعى للتقليل من اعتمادها على النفط. ومع ذلك، فإن تسارع الرقمنة يأتي مع تحديات جسيمة تتعلق بالأمن السيبراني وحماية الخصوصية، حيث شهدت المنطقة ارتفاعًا ملحوظًا في الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنى التحتية الحيوية. فقًا لتقرير صادر عن شركة “بوزيتف تكنولوجيز”، تضاعف عدد الهجمات الإلكترونية الناجحة في الشرق الأوسط بمعدل ثلاث مرات أي بنسبة 200% في عام 2024. تجاوز هذه العقبات يتطلب تبني أطر قانونية وتنظيمية قوية، بالإضافة إلى تعزيز القدرات التقنية الوطنية.

وعلى الرغم من التحديات الماثلة، إلا أن الفرص التي يمكن استغلالها هائلة أيضاً. الاستثمار في التعليم والتدريب المهني يمثل حجر الأساس لتحقيق التنمية المستدامة، حيث تحتاج الدول العربية إلى إعادة تعريف مفهوم ومنظومة التعليم لتشمل الابتكار وريادة الأعمال. تطوير الاقتصاد الأخضر يمثل أيضًا ركيزة مهمة لتحويل التحديات المناخية إلى فرص اقتصادية، حيث تمتلك المنطقة إمكانيات هائلة في مجالي الطاقة الشمسية والرياح يمكنها أن تكون بديلًا اقتصاديًا مستدامًا.

إن التحولات التي يشهدها العالم العربي ليست مجرد أزمات أو معوقات، بل تمثل فرصة لإعادة صياغة مستقبل المنطقة. الارتقاء بمستوى التعاون الإقليمي في مجالات الأمن، والتجارة، والتعليم يمكن أن يمثل القوة الدافعة لتحقيق الاستقرار والنماء. الدور الذي تلعبه القوى الدولية في المنطقة يفرض على الدول العربية العمل على تعزيز استقلالية قراراتها الاستراتيجية، وبناء شراكات دولية تقوم على المصالح المتبادلة.

لا يمكن للمنطقة أن تظل عالقة في دائرة الصراعات والمشكلات المزمنة، ولا بد لها الخروج من هذه الحلقات المفرغة والعمل على معالجة جذور المشكلات وتبنى استراتيجيات جريئة وطويلة المدى خاصة تلك المرتبطة بالبطالة، والهياكل الاقتصادية المُنهكة والمترهلة. العالم العربي يقف اليوم على أعتاب مستقبل يمكن أن يكون أكثر استقراراً، إذا ما تم التعامل مع التحديات بواقعية ووعي، واستثمار الفرص بحكمة وتخطيط دقيق.