الأمن الغذائي العربي

...
التاريخ: 17 - 03 - 2025

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

تشهد المنطقة العربية تحولات متسارعة في ظل تحديات غير مسبوقة على مستوى الأمن الغذائي، وهو تحدٍ مركب يتداخل فيه البعد الاقتصادي مع السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يضع هذه القضية في صميم الأمن القومي للدول العربية. انعدام الأمن الغذائي هي أزمة عقود من السياسات الزراعية والاقتصادية التي لم تواكب التغيرات السكانية والبيئية، تاركةً المنطقة في وضع هش أمام التقلبات العالمية.

العالم العربي يستورد اليوم نحو 50% من احتياجاته الغذائية، وهذه النسبة تجعل المنطقة رهينة لتقلبات الأسواق العالمية والصدمات الجيوسياسية. بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، فإنه في عام 2023، من المتوقع أن تصل فاتورة الواردات الغذائية العالمية إلى 2 تريليون دولار، بزيادة قدرها 1.8% عن عام 2022. كما تشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة الأغذية والزراعة إلى أن منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا ستسجل عجزًا في صافي تجارة الأغذية بقيمة 106 مليارات دولار بحلول عام 2033، مقارنةً بـ 78 مليار دولار في المتوسط خلال الفترة بين 2021 و2023. الاعتماد الكبير على الاستيراد يعكس الخلل الهيكلي في سياسات الإنتاج الزراعي، التي تفتقر إلى الرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى. وفي ظل تتابع الأزمات الدولية وتكرارها، تظهر هشاشة الأنظمة القائمة، حيث تستمر الأسعار في تسجيل ارتفاعات متتالية، لتزيد من الضغوط على الاقتصادات العربية، وتضاعف من معاناة الفئات الأكثر ضعفاً.

في الوقت ذاته، يتفاقم الوضع بفعل التغير المناخي، الذي أصبح عاملاً مؤثراً بشكل غير مسبوق في الإنتاج الزراعي. الدول العربية، التي تقع أغلبها في المناطق القاحلة وشبه القاحلة، تعاني من جفاف مستمر وندرة في الموارد المائية، ليشكل ذلك عامل مهدد لمستقبل الزراعة التقليدية وانتاجيتها. ارتفاع درجات الحرارة وتدهور التربة هما من بين أبرز التحديات التي تؤثر على إنتاجية المحاصيل، والذي يجعل الحاجة إلى تبني تقنيات زراعية مبتكرة واعتماد أساليب مستدامة لإدارة الموارد الطبيعية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

النمو السكاني السريع يضيف بُعداً آخر لهذه الأزمة، حيث يتزايد الطلب على الغذاء بشكل مُطرد، في وقت لا تنمو فيه القدرات الإنتاجية بنفس الوتيرة. هذا النمو يترافق مع ضغوط على الموارد الطبيعية والبنية التحتية التي تعاني بالفعل من الإجهاد. وفي الدول التي تمزقها النزاعات المسلحة، مثل اليمن وسوريا وليبيا، يصبح الوضع أكثر تعقيداً، في ظل البنية التحتية الزراعية المُدمرة، والملايين من المشردين، ليضاعف بدوره من حدة انعدام الأمن الغذائي.

لكنه وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة، إلا أن هناك فرص حقيقية للتحول نحو السيادة الغذائية، وهو مفهوم يتجاوز فكرة الاكتفاء الذاتي ليشمل حق الشعوب في تحديد نظمها الغذائية بما يتماشى مع احتياجاتها المحلية. السيادة الغذائية ليست مجرد هدف تنموي؛ بل استراتيجية لتحرير القرار الاقتصادي من الهيمنة الخارجية وتدعيم القدرات الوطنية لمواجهة الأزمات العالمية.

التحول نحو السيادة الغذائية يتطلب استثمارات جريئة ومُركزة في القطاع الزراعي. المطلب هو أن تتبنى الدول العربية تقنيات حديثة مثل الزراعة الدقيقة والذكاء الاصطناعي، التي تتيح تحسين كفاءة الإنتاج وتقليل الهدر. كما أن الزراعة العمودية والزراعة المائية تمثل حلول واعدة للمناطق التي تعاني من ندرة المياه والأراضي الصالحة للزراعة. هذا التحول يجب أن يرافقه الاستثمار في البحث والتطوير، حيث يمكن للمراكز البحثية أن تلعب دوراً محورياً في تطوير حلول تتناسب مع الخصائص المناخية والبيئية للمنطقة.

التعاون الإقليمي يمثل ركيزة أساسية لتحقيق الأمن الغذائي في هذا المضمار. الدول العربية أمام مطلب مهم وهو العمل ككتلة موحدة لتنسيق السياسات الزراعية والتجارية، وتوسيع دائرة التكامل بين الدول ذات الموارد الوفيرة وتلك التي تعاني من عجز غذائي. السودان، كمثال، يمتلك إمكانات هائلة غير مستغلة في مجال الزراعة، ومرشح ليصبح سلة غذاء إقليمية إذا ما تم استثمار موارده بشكل مشترك ضمن إطار تعاون عربي شامل. كما أن تأسيس صندوق استثماري عربي لتمويل المشاريع الزراعية الكبرى في السودان والدول الأخرى ذات الإمكانات الواعدة يمكن أن يشكل نقطة تحول جوهرية. هذا الصندوق سيكون أداة استراتيجية لتحقيق الأهداف طويلة الأمد، مع ضمان أن تعود فوائد هذه الاستثمارات بالنفع على جميع الأطراف.

لكن التحول الحقيقي لا يقتصر على السياسات التقنية والاقتصادية؛ بل يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المجتمعات والنظم الغذائية. التعليم والتوعية بأهمية الأمن الغذائي والاستدامة يجب أن يكونا جزءاً من المناهج الدراسية، كما أن توسيع نطاق مشاركة الأفراد في التخطيط والتنفيذ للمبادرات الزراعية الوطنية يمكن أن يحدث فارقاً جوهرياً. ثم أنه من الضروري أيضاً أن يتم معالجة مشكلة الهدر الغذائي، التي تشكل تحدياً كبيراً في العديد من الدول العربية، من خلال حملات التوعية والسياسات التحفيزية لتقليل الفاقد على المستويين الفردي والمؤسسي. تُشير الإحصاءات إلى أن الخسائر الناتجة عن فقد وهدر الأغذية على امتداد سلاسل القيمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقدر بما يزيد على 60 مليار دولار سنويًا، مع حصة فردية تبلغ حوالي 250 كيلوجرامًا سنويًا.

خلاصة الحديث، الأمن الغذائي هي قضية مرتبطة بالأمن القومي والاستقرار الإقليمي. وبالتالي، فإن تحقيق مطلب السيادة الغذائية هو أمر استراتيجي لا بد منه، ولكنه يتطلب رؤية مستقبلية وإرادة سياسية تتجاوز مجرد وضع الحلول المؤقتة. وعليه فإن السياسات الوطنية يجب أن توجه الميزانيات نحو الاستثمار في الزراعة والتكنولوجيا الحديثة، باعتبارهما معاً مسار استراتيجي نحو مستقبل أكثر استدامة. لذا، فإن الدعوة هنا تتمثل في استعادة دور المنطقة كمحرك اقتصادي واستراتيجي في النظام العالمي، فضلاً عن التحول إلى نموذج يحاكي أفضل الممارسات في الزراعة المستدامة والإنتاج الذاتي.