القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
يشهد الاقتصاد العالمي تحولات متسارعة تعيد رسم معالم المشهد الجيوسياسي، وفي القلب من هذه التحولات تتجلى أزمة الليبرالية الاقتصادية في الولايات المتحدة، التي طالما كانت الحاضنة الأيديولوجية للرأسمالية العالمية. على مدى عقود، شكّلت السوق الحرة والإطار المؤسسي للنظام الاقتصادي الأمريكي مُرتكزًا للهيمنة الغربية، حيث تمت صياغة العولمة الاقتصادية وفق منظور أمريكي قائم على الانفتاح التجاري، وتفوق الأسواق، وتقليص دور الدولة في ضبط الاقتصاد. غير أن الواقع الحالي يوحي بأن هذا النموذج لم يعد بمنأى عن التحديات التي تهدّد استمراريته، ليفتح الباب أمام تساؤلات حول ما إذا كنا نشهد تراجع المبادئ والأسس التي قامت عليها هذه العقيدة الليبرالية الاقتصادية، أم أن الأمر لا يتعدى في كونه جزء من عملية تصحيح أو إعادة ضبط مؤقتة للتوازن الاقتصادي قبل أن تعود بأشكال جديدة في المستقبل.
الصعود المتسارع للنزعة الحمائية في السياسات الأمريكية ليس انحرافًا طارئًا عن المسار الرأسمالي التقليدي، بل هو انعكاس لتحولات بنيوية أعمق تكشف عن إخفاقات النموذج الليبرالي ذاته. في ظل إدارة “ترامب”، اتخذت هذه السياسات أبعادًا أكثر وضوحًا، حيث تبنّت واشنطن مقاربة هجومية تجاه التجارة الحرة عبر فرض رسوم جمركية على الواردات، واعتماد تدابير وقائية لدعم القطاعات الصناعية المحلية، وهو ما استتبع ردود فعل مضادة من القوى الاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها الصين. هذه المواجهة دفعت النظام التجاري الدولي إلى حالة من الجمود، حيث تعثّرت آليات فض النزاعات في منظمة التجارة العالمية، ليعيد إلى الأذهان سيناريوهات الأزمات الاقتصادية التي أدّت إلى الانكماش العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي.
على المستوى الفكري، يُعيد هذا التحول إنتاج جدليات حول مدى قدرة الأسواق على تنظيم نفسها دون تدخل الدولة، وهو التساؤل ذاته الذي طُرح عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، حينما أظهر الاقتصاد الأمريكي هشاشة غير مسبوقة أمام الاضطرابات المالية، ما أجبر الحكومة الفيدرالية على التدخل لإنقاذ المؤسسات المالية الكبرى عبر سياسات نقدية توسعية غير تقليدية. لم يكن هذا التدخل مجرد إجراء طارئ، بل كان بداية لانزياح تدريجي عن المعتقدات التقليدية للاقتصاد الحر، حيث بات واضحًا أن الأسواق ليست دائمًا قادرة على تصحيح اختلالاتها ذاتيًا، وأن الدولة تظل الفاعل الوحيد القادر على إدارة التوازنات الكبرى في فترات الأزمات.
إلى جانب الأزمات المالية، تفاقمت الأزمة الهيكلية للرأسمالية الأمريكية نتيجة اتساع فجوة الدخل بين الطبقات الاجتماعية، إذ أدت عقود من السياسات الليبرالية إلى تآكل الطبقة الوسطى، التي تشكل العمود الفقري للاستقرار الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة. ومع تزايد حدة الاستقطاب الاجتماعي، بات الغضب الشعبي وقودا أساسيًا لصعود التيارات الشعبوية، التي وجدت في الخطاب المعادي للعولمة وسيلة لاستقطاب الناخبين الذين يشعرون بأن النظام الاقتصادي لم يعد يعمل لصالحهم. هذا الشعور بالحرمان الاقتصادي لم يكن مجرد نتاج سياسات محلية، بل تأثّر أيضًا بالتحولات التكنولوجية العميقة التي فرضتها الثورة الصناعية الرابعة، حيث أزاحت الأتمتة والذكاء الاصطناعي ملايين الوظائف التقليدية، ما ضاعف من هشاشة الفئات العاملة، وفاقم أزمة عدم المساواة.
لم تعد السياسات الاقتصادية الأمريكية تقتصر على تأثيرها الداخلي، بل باتت مُحددا رئيسيًا للاتجاهات الاقتصادية العالمية، خاصة في ظل ارتباط الأسواق الدولية بشكل غير مسبوق. الحروب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية كشفت عن درجة التعقيد التي وصل إليها الاقتصاد العالمي، إذ لم تعد السياسات الحمائية قادرة على حماية الأسواق المحلية من تداعيات الاضطرابات الخارجية. فالاقتصاد لم يعد محكومًا بالحدود الجغرافية، بل أصبح شبكة معقدة من سلاسل التوريد العابرة للدول، ما يعني أن أي اختلال في أحد أجزائها سرعان ما يُحدث ارتدادات تتجاوز حدود الدولة الواحدة. هذه الحقيقة تُعيد النظر في جدوى السياسات الاقتصادية الأحادية، وتؤكد أن التشابك الاقتصادي العالمي لم يعد يسمح بسياسات الانعزال دون تكلفة باهظة.
مع ذلك، فإن نهاية الليبرالية الاقتصادية في أمريكا لا تعني بالضرورة انهيارًا كاملًا للنموذج الرأسمالي، بقدر ما تعكس عن إعادة تشكيل لمعادلات القوة الاقتصادية. من غير المرجح أن تتخلى الولايات المتحدة كليًا عن مبادئ السوق الحر، لكنها قد تتجه نحو نموذج أكثر مرونة، يجمع بين تدخل الدولة عندما تقتضي الضرورة، وبين ديناميكيات السوق في الأوقات المستقرة. في هذا السياق، قد نشهد تصاعدًا لدور السياسات الصناعية الموجهة، حيث تصبح الدولة أكثر فاعلية في رسم استراتيجيات اقتصادية تُراعي المتغيرات العالمية، بدلاً من الاكتفاء بإدارة الأزمات من منطلق رد الفعل.
في المحصلة، فإن ما يجري اليوم ليس مجرد تغيير في السياسات الاقتصادية، بل هو تحوّل في الفكر الاقتصادي ذاته، حيث باتت الحاجة ملحّة إلى مراجعة المُسّلمات التي حكمت النظام الرأسمالي على مدى العقود الماضية. إذاً، فالسؤال الذي يفرض نفسه، ليس ما إذا كانت الليبرالية الاقتصادية ستنتهي، بل كيف ستتطور، وفي أي اتجاه ستمضي الولايات المتحدة لإعادة تعريف دورها في النظام الاقتصادي العالمي. فالاقتصاد ليس كيانًا جامدًا، بل هو كائن حيّ يتطور وفق المتغيرات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية، وإذا كان النظام الليبرالي قد أظهر تآكلًا في قدرته على الاستجابة لهذه المتغيرات، فإن البديل لن يكون العودة إلى السياسات الحمائية التقليدية، بل صياغة نموذج جديد يُوازن بين السوق والدولة، وبين الانفتاح الاقتصادي والحماية الاجتماعية، وبين التنافسية العالمية والعدالة المحلية.
ربما لم تُكتب بعدُ الفصول الأخيرة من قصة الليبرالية الاقتصادية، لكن من الواضح أن الرواية لم تعد كما كانت. النظام الاقتصادي العالمي يمرّ بمرحلة مخاض، حيث لم يعد بالإمكان إدارة الاقتصاد بعقلية القرن العشرين، بينما تتطلب تحديات القرن الحادي والعشرين أدوات جديدة واستراتيجيات أكثر تكاملًا. في هذا السياق، لا يمكن اختزال النقاش في انحسار الليبرالية الاقتصادية الأمريكية فقط، بل ينبغي النظر إلى الصورة الأشمل وهو عن الكيفية التي سيعاد بها تشكيل النظام الاقتصادي العالمي في عصر تُعيد فيه القوى الصاعدة صياغة قواعد اللعبة؟
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |