التحول نحو الطاقة المستدامة في العالم العربي

...
التاريخ: 29 - 03 - 2025

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

 

تمتلك المنطقة العربية موقعًا استراتيجيًا وثروة طبيعية هائلة تجعلها مؤهلة للتحول إلى قطب عالمي في إنتاج الطاقة المتجددة. فمع وفرة مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، تمتلك الدول العربية فرصة استثنائية لإعادة تشكيل المشهد الطاقي العالمي، شريطة أن يتم استغلال هذه الموارد ضمن رؤية متكاملة تستند إلى التعاون الإقليمي وتوظيف أحدث الابتكارات التكنولوجية. ولكن غياب الاستراتيجيات الشاملة قد يُبقي هذه الإمكانات مجرد احتمالات غير مستغلة، في وقت تتسابق فيه القوى الاقتصادية الكبرى نحو إحراز تفوق في قطاع الطاقة المستدامة.

لا يقتصر تطوير قطاع الطاقة المتجددة على تأمين احتياجات المنطقة من الكهرباء فقط، بل يمثل ركيزة لتحول اقتصادي أعمق، قادر على إعادة رسم ملامح المشهد التنموي في الدول العربية. فمن خلال تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، تستطيع الاقتصادات العربية تحرير موازناتها العامة من تقلبات أسواق النفط العالمية، وتحقيق الاستقرار المالي عبر تنويع مصادر الدخل القومي. كما أن الاستثمار في الطاقة النظيفة يسهم في تحسين التنافسية الإقليمية، ويضع الدول العربية في موقع متقدم ضمن الأسواق الدولية التي أصبحت تعتمد بشكل متزايد على معايير الاستدامة في التجارة والاستثمار.

تشير البيانات إلى أن الاستثمارات العربية في قطاع الطاقة تجاوزت 880 مليار دولار خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يعكس إدراك الحكومات لأهمية هذا القطاع في تحقيق الاستقرار الاقتصادي. فاقتصادات مثل الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وقطر، والكويت، ومصر، تعمل على تطوير مشاريع ضخمة تهدف إلى تطوير البنية التحتية الطاقية، سواء في مجال الوقود الأحفوري أو مصادر الطاقة المتجددة، والذي سيفتح بدوره آفاقًا جديدة لتكامل اقتصادي أكثر فعالية. غير أن السؤال الجوهري يظل متمحورًا حول مدى قدرة هذه الدول على استغلال هذه الاستثمارات لإحداث تحول هيكلي عميق يضمن استدامة النمو الاقتصادي بعيدًا عن التقلبات الدورية لسوق النفط.

في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، أصبح التعاون الإقليمي في مجال الطاقة عنصرًا أساسيًا في صياغة مستقبل المنطقة. فالتكتلات الاقتصادية الكبرى في العالم تدرك أن استراتيجيات الطاقة لا تقتصر على الجوانب التقنية بشكل بحت، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموازين القوى السياسية والتجارية. إن تعزيز التكامل العربي في مجال الطاقة، عبر مشاريع مشتركة كتوحيد شبكات الكهرباء وإقامة مجمعات صناعية متخصصة في تصنيع مكونات الطاقة المتجددة، يمكن أن يجعل من المنطقة لاعبًا رئيسيًا في الاقتصاد العالمي، وليس مجرد مستهلك أو مورد للمواد الخام.

وعلى الرغم من هذه الفرص، تواجه المنطقة العربية تحديات بنيوية تعيق تحقيق التكامل المطلوب في قطاع الطاقة المتجددة. فالتوترات السياسية بين بعض الدول، والافتقار إلى أطر قانونية وتنظيمية موحدة، يعرقلان تنفيذ المشاريع العابرة للحدود، ويحدّان من قدرة القطاع الخاص على لعب دور محوري في تطوير البنية التحتية الطاقية. كما أن غياب سياسات شفافة لجذب الاستثمارات الأجنبية، واستمرار الاعتماد على الدعم الحكومي لقطاع الطاقة التقليدي، يبطئان عملية التحول نحو نموذج اقتصادي قائم على الاستدامة.

إذا أرادت الدول العربية تجاوز هذه العقبات، فإنها بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها الطاقية من منظور استراتيجي شامل، يتجاوز الأطر الوطنية الضيقة إلى تكامل إقليمي حقيقي. يتطلب ذلك إنشاء آليات مؤسسية تضمن تنسيق السياسات الطاقية بين الدول، ووضع برامج لتمويل المشاريع المشتركة عبر صناديق استثمارية إقليمية، إلى جانب بناء شراكات دولية مع القوى الرائدة في قطاع التكنولوجيا الخضراء. كما أن الاستثمار في البحث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة، من خلال إنشاء مراكز ابتكار إقليمية، سيضع المنطقة في موقع يمكنها من المنافسة عالميًا، بدلاً من الاكتفاء باستهلاك الابتكارات المستوردة.

عامةً، مستقبل المنطقة العربية في مجال الطاقة يتوقف على قدرتها على إعادة تعريف موقعها ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية. فإما أن تبقى عالقة في نماذج اقتصادية تقليدية، تعتمد على تصدير المواد الخام، أو أن تتبنى نهجًا استباقيًا يجعلها قوة مؤثرة في رسم سياسات الطاقة العالمية. الخيار الأول يحمل معه مخاطر التبعية والتهميش، بينما يفتح الخيار الثاني الباب أمام تحول تاريخي قادر على إعادة تموضع العالم العربي كقوة اقتصادية مستدامة، تمتلك من الإمكانات ما يؤهلها لتكون أحد أعمدة النظام الطاقي العالمي الجديد.