تعرضنا في المقالات السابقة إلى مفاهيم وتقنيات مرتبطة بالاقتصاد الرقمي، وبينا أن الاقتصاد الرقمي يعتبر عاملاً محفزاً لمفهوم سلاسل القيمة (VALUE CHAINS)، وهي سلسلة إنشاء القيمة الاقتصادية التي تبدأ من المواد الأولية للإنتاج وتنتهي بوصولها للمستفيد النهائي، وبيّنا أن التقاطع في سلاسل انتاج القيمة تتشكل معها شبكة من المعاملات الاقتصادية، والتي تحدد أحكامها قواعد العرض والطلب (Supply-Demand)، ونود هنا الإشارة إلى أنه يمكن دراسة العلاقات البينية ضمن هذه الشبكة من خلال ما تم الاصطلاح عليه علميا بالاقتصاد الجزئي (Microeconomics).
يعتبر الاقتصاد الجزئي فرع من علم الاقتصاد، والذي يركز على دراسة السلوك الاقتصادي لكل وحدة من وحدات الاقتصاد في شبكة العرض والطلب، مثل الأفراد أو الشركات أو القطاعات الصناعية. ويهتم الاقتصاد الجزئي بالعوامل التي تؤثر على اختيارات المستهلك أو المؤسسة في عملية صنع القرارات والتي بدورها تنظم قوانين العرض والطلب، والعوامل التي تساعد في تحقيق التوازن في الأسواق – بين سعر المنتجات و السلع وقدرة المستهلك على الشراء – وهي عوامل رئيسية تتحكم بدوران العجلة الاقتصادية.
والوسيط الذي يعبر عن نقطة التوازن بين العرض والطلب – أي التوافق بين القرارات – هو القيمة أو السعر والذي يعني المال، وهو الثمن المتفق عليه بين البائع والمشتري أو بين مقدم الخدمة أو المنتج ومستهلكها والمستفيد منها. أي أن حركة الأموال في الأسواق بين الوحدات الاقتصادية هي بمثابة الوقود الذي يدير ويُمكّن دوران العجلة الاقتصادية.
كانت هذه المقدمة ضرورية لنطرح تساؤلنا حول كيفية تنشيط آليات الاقتصاد الجزئي، لتحفيز العلاقة الاقتصادية بين الجهة المنتجة للقيمة وبين من يطلبها؟
وفي هذه المقالة سنتعرض لتكنولوجيا الأموال، والتي يتم الاصطلاح عليها بمسمى (Fintech) وهو اختصار للمسمى (financial technology).
يستخدم مصطلح (Fintech) لوصف التكنولوجيا الجديدة التي تسعى إلى تحسين تقديم واستخدام الخدمات المالية من خلال أتمتتها وتقديمها للمستخدمين بغرض مساعدة الشركات وأصحاب الأعمال والمستهلكين على إدارة وتنفيذ معاملاتهم المالية بصورة إلكترونية وآمنة، من خلال استخدام البرامج والتطبيقات على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية.
وتأتي تقنيات (Fintech) على شكل مجموعات متنوعة من الأنشطة المالية البسيطة والمعقدة، ونطرح منها على سبيل المثال:
الحلقة الخامسة – خدمات تكنولوجيا الأموال ودورها في الشمول المالي
ووفقًا لمؤشر تبني التكنولوجيا المالية الصادر عن شركة إيرنست أند يونج (EY’s Fintech Adoption Index) لعام 2017، فإن ثلث المستهلكين المتصلين بشبكة الإنترنت يستخدمون على الأقل خدمتين أو أكثر من خدمات (Fintech)، كما أن هؤلاء المستهلكين أصبحوا مدركين بشكل متزايد لأهميتها، بل وأصبحت تمثل مكوناً مساعداً في حياتهم اليومية. وحسب الاحصاءات فإن هذه النسبة لم تتجاوز 16% في عام 2015، أي انها تضاعفت خلال سنتين، وهو معدل نمو من المتوقع أن يستمر بنفس الوتيرة، حتى وصولها إلى مستوى النضج المنشود.
والمثير اليوم أن التكنولوجيا المالية تعدت مرحلة رقمنة الأموال، إلى نمذجة البيانات والمعلومات، لتصبح مصدراً للدخل ويجعلها قيمة اقتصادية في حد ذاتها. ويتعلق الأمر هنا في كيفية الحصول على القيمة المضافة من البيانات واستثمارها، وهو الأمر الذي نراه ثورة اقتصادية غير مسبوقة، حيث لم يكن بوسع الإنسان بالماضي الاستفادة من البيانات كمصدر للثروة مثله مثل الذهب والفضة والنفط والمعادن، ولكن الآن ومع التقنية الرقمية كالتكنولوجيا المالية، أصبحت البيانات مصدراً اقتصادياً هاماً، وهو ما يعني أننا نشهد عصرا جديدا سيعيد تعريف الاقتصاد ليؤكد أنه علم قابل للتطور والتغير وليس كالرياضيات أو الفيزياء على سبيل المثال.
وتعد حلول التكنولوجيا المالية بفرص هائلة لجميع الأعمال وبأحجامها المختلفة، وخاصة الشركات الصغيرة للبقاء والازدهار. فهي تقدم حلول رقمية متكاملة تمكن هذه الشركات من إدارة مواردها المالية والتدفقات النقدية بكفاءة أفضل. فمن المعلوم بأن الشركات الصغيرة والمتوسطة تشكل اللبنة الرئيسية والمحرك الحقيقي للنمو الاقتصادي فهي توفر المصدر الأكبر للوظائف، بل وتشكل النسبة الأكبر من شبكة القيمة المضافة التي نسعى لتفعيلها وتمكينها من التحرك والإنتاج والتسويق.
وتعتبر التكنولوجيا المالية اليوم أحد أهم أدوات التحول المجتمعي لدمج الأفراد والمؤسسات ضمن مظلة الشمول المالي. والشمول المالي وفقا لتعريف البنك الدولي، يعني توفر الخدمات المالية لجميع شرائح المجتمع من أفراد ومؤسسات ومن خلال القنوات الرسمية، وتشمل الحسابات المصرفية وخدمات الدفع والتحويل والتأمين والتمويل والائتمان، والخدمات المالية الأخرى المبتكرة بأسعار تنافسية.
ولا شك بأن الحكومات بالعالم أجمع تولي اهتماماً كبيراً نحو توسيع مجال تغطية الشمول المالي لكافة مواطنيها ومؤسساتها والشركات العاملة على أراضيها. فطبقاً للتقارير الدولية ولا سيما البنك الدولي فإنه قد تم اعتبار الشمول المالي ممكناً رئيسياً لسبعة أهداف ضمن أهداف الاستدامة العالمية الـ 17، لذا فهو يقع على رأس أولوياتها ولا سيما في مجالات مكافحة الفقر، وتعزيز فرص الاستثمار ودوران رؤوس الأموال للتنمية المحلية، والالتزام بالقوانين، وتمكين الفئات المهمشة وتعزيز المساواة بين الجنسين وتحسين ظروف المرأة، وإيجاد فرص جديدة للتوظيف وتخفيض مستوى البطالة، وتحسين جودة حياة المواطنين.
والشمول المالي من شأنه أن يدعم جهود الحكومات العربية في حماية حقوق مستخدمي الخدمات المالية، وتشجيعهم على إدارة أموالهم ومدخراتهم بشكل أفضل، بغرض تفادى لجوء البعض إلى القنوات والوسائل غير الرسمية التي لا تخضع لجهات الرقابة والإشراف ولا تسدد الضرائب، وتعتمد في غالب الأحيان على “أسعار مرتفعة”. وحسب الاحصاءات الدولية، فإن الرقم العالمي للأشخاص بدون حسابات مصرفية بلغت 1.7 مليار نسمة في 2017 مقارنة بـ 2.4 مليار في 2011. هذا التحسن في نسب الشمول المالي ورغم الزيادة السكانية يوضح بجلاء إلى أين يتجه العالم اليوم وسيأتي يوم يكاد لا يكون فيه أحد إلا منضوٍ ضمن مظلة الشمول المالي القانونية.
ثم أن انضواء المشاريع متناهية الصغر ضمن مظلة الشمول المالي أي بامتلاكها حسابات بنكية سيدعم استخدام الخدمات المالية الرقمية، بما في ذلك الخدمات المالية عن طريق الهاتف المحمول، وبطاقات الدفع الإلكترونية، وغيرها من تطبيقات التكنولوجيا المالية. وبافتراض أن هذه المشاريع تمتلك حسابات مصرفية، فمن الأرجح أن يقوموا باستخدام خدمات مالية أخرى، مثل خدمات الائتمان والاقتراض والتأمين، وبدء الأعمال التجارية وتوسيع نطاقها، وهو ما من شأنه أن ينعكس على قدرتها في إدارة المخاطر، والتعامل مع الصدمات المالية.
وبشكل عام، من شأن الشمول المالي تعزيز الوضع الاقتصادي للدولة، وتوسيع فرص الوصول للخدمات المالية من خلال تطوير قدرات كافة الجهات الداخلة في شبكة إنشاء القيمة الاقتصادية بحيث يتمكن المنتجين من الاستفادة من هذه الخدمات سواء بالتمويل أو الاقتراض أو توفير الخدمات المالية الجاذبة للمتعاملين مثل التأمين أو الأسعار التنافسية. وبنفس النهج يستفيد المتعامل من هذه الشبكة من خلال خدمات التكنولوجيا المالية والتي توفر خدمات الدفع الإلكترونية والتقسيط والاقتراض وتمويل الشراء الآلي، ناهيك عن السهولة الشديدة في الاستخدام.
والجدير بالإشارة بأن حكومة دبي الذكية وبالتعاون مع مركز دبي المالي العالمي أطلقت أول مسرّع للتكنولوجيا المالية في المنطقة، بهدف تحسين تجربة المتعاملين وتعزيز الكفاءة التشغيلية في قطاع الخدمات المالية.
وأطلق سوق أبوظبي العالمي برنامجاً مماثلاً يسمى “المختبر التنظيمي” في 2018.
وتأتي هذه المبادرات الحكومية لدعم القطاع العام والخاص لتحفيز استخدامات التكنولوجيا المالية في رقمنة الخدمات، والذي بدوره سيساهم في دعم حركة المنظومة الاقتصادية في الدولة.
وينظر الكثير من الخبراء والمصرفيين لتكنولوجيا الأموال باعتبارها تهديدا حقيقيا للقطاع المصرفي التقليدي
ما لم يبدّل الأخير من سياساته ويندمج مع هذه التقنية المفضلة لجيل الشباب وخاصة الأجيال التي ستدخل سوق العمل خلال العقد المقبل،
وهي فئة تُفضّل التطبيقات والحلول الذكية.
ووفق الاحصاءات المتداولة اليوم، فإن قيمة المبالغ التي تدار اليوم من خلال شركات التكنولوجيا المالية حوالي 5 ترليون دولار. ومن المتوقع أن تخسر المؤسسات المالية الكبرى مثل المصارف والبنوك في جميع أنحاء العالم 24 في المائة من إيراداتها لصالح مثل هذه الشركات خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة،
وذلك وفقًا لدراسة جديدة أجرتها شركة برايس ووترهاوس كوبرز.
خلال فترة أعوام بسيطة نقدرها على الأكثر بخمسة أعوام سيستظل أغلب الأفراد البالغين بمظلة الشمول المالي،
والشمول الرقمي أيضا، حيث ستكون خدمات التكنولوجيا المالية هي وسيلة وصولهم المفضلة إلى الخدمات المالية، خاصة مع انتشار الهواتف المتحركة وشبكات الإنترنت، وارتباطها بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والبيانات الضخمة. وعلى الحكومات أن ترى ذلك كفرصة حقيقية لتمكين وتطوير المنظومة التنموية، ومحركاً لعجلة الأنشطة الاقتصادية وتوسيع نطاقها،
ومحفزاً لجذب الاستثمارات في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والتجارة والصناعة، وتحسين جودة الحياة بمفهومها الشامل.
د. م. علي محمد الخوري
مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |