أزمة الغذاء المقبلة.. التحديات والحلول في منطقة الشرق الأوسط

...
التاريخ: 23 - 01 - 2023

المصدر: مفكرو الإمارات

أبوظبي

أ.د. علي محمد الخوري

جعلت الحرب الروسية-الأوكرانية العالم على صفيح ساخن سياسيًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا، وكان القطاع الاقتصادي هو الأكثر تضررًا؛ فبعد مرور ما يقارب عامًا على بدء هذه الحرب؛ وبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ فإن تكاليف الحرب الاقتصادية قد تتجاوز ثلاثة تريليونات دولار في نهاية العام الجاري.

ومن بين ما تسبَّبت به الأحداث العالمية المتزامنة والمتتالية انهيار قطاع الإنتاج، ونقص الغذاء، وارتفاع معدلات التضخم وأسعار السلع والمواد الأساسية، فضلًا عن إثارة المخاوف من حدوث اضطرابات سياسية محلية وإقليمية قد تؤجّج حدَّة الأوضاع الراهنة، وتقود إلى المزيد من الصدمات، وتؤدي إلى سيناريو أشبه بوقوع قِطع الدومينو التي تصطف بعضها خلف بعض.

وفي ظل تزايد درجة التوتر بين المعسكر الأمريكي-الأوروبي، والمعسكر الروسي وحلفاء كل منهما، في ساحة تبدو كأنها تحتضن العالم ليشهد منافسة في لعبة “جر الحبل”؛ فإن منطقة الشرق الأوسط لم تكن في مأمن من تداعيات الأزمة، وتعرضت لموجات قاسية من الاضطرابات الاقتصادية الشديدة، حالها كحال بقية دول العالم. ومن حسن حظ الدول المنتجة للنفط أن الارتفاعات الملحوظة في أسعار مواد الطاقة قد أسهمت في تحقيقها فوائض تجارية كبيرة؛ غير أن التحديات التنموية لا تزال تمثل عبئاً ثقيلاً عليها في ظل ما تشهده من ارتفاع في مستويات البطالة، وغلاء الأسعار والمعيشة، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتصاعد حدة التوترات التجارية، وتعطل سلاسل الإنتاج والإمداد في التجارة الدولية، فضلاً عن زيادة معدلات التوتر في الجغرافيا المحيطة.

مصدّرو النفط يستفيدون من الحرب والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة

أدت الحرب الدائرة في أوكرانيا إلى حدوث موجة كبيرة جداً من الارتفاع في أسعار مصادر الطاقة بمختلف مشتقاتها، سواء الغاز الطبيعي أو مشتقات النفط المختلفة؛ ما أسهم في استفادة مجموعة محدودة من الدول من ارتفاع أسعار الطاقة، من بينها الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي مثل دول الخليج العربية، وليبيا، والجزائر، وروسيا، وفنزويلا، وإيران، إضافة إلى الدول المنتجة والمصدرة للغاز الطبيعي مثل قطر، ومصر، والجزائر، ونيجيريا، وروسيا، وإسرائيل، واليونان. ومن المتوقع أن تشهد الاحتياطيات المالية في بعض هذه الدول ارتفاعاً كبيراً في العملات الأجنبية مع تحقيقها مكاسب وفوائض في موازناتها ولا سيما في دول الخليج العربية، والجزائر.

وأوضح تقرير لصندوق النقد الدولي، صدر في عام 2022، أن الدول المصدّرة للنفط، ولا سيَّما في منطقة الشرق الأوسط، سوف تحقق عائدات سنوية تصل إلى 300 مليار دولار، وبإجمالي تريليون و300 مليار دولار حتى عام 2026، ستُمثّل في مجملها عوائد تصدير مواد الطاقة من النفط والغاز.

ولكنْ على الصعيد الآخر تضررت دول عديدة من الارتفاعات القياسية في أسعار الوقود والطاقة، منها دول الاتحاد الأوروبي التي شهدت تعطُّل كثير من المصانع؛ نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، وتوقُّف صادرات الغاز الروسي الرخيص إليها. كما انضمَّت إلى طابور المتضررين دول الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والهند، وغيرها من الدول الصناعية الكبيرة المستوردة للطاقة، التي شهدت انكماشًا في اقتصاداتها مع اختلال ميزان العرض والطلب، وارتفاع معدلات الفائدة والتضخم.

وبموجب الاتفاقيات المبرمة بين مصدري الغاز والنفط مع دول مثل الولايات المتحدة والصين والهند ودول أوروبا؛ فإن من المؤكد أن تتحول مراكز الثقل المالي إلى منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً الدول الخليجية التي أصبحت مصدراً رئيسياً للحصول على موارد الطاقة بالنسبة إلى بكين، ودول جنوب شرق آسيا، والقارة الأوروبية ومصانعها.

أزمة غذاء عالمية قد تزيد حدَّة التوترات في الدول الفقيرة

أصابت الحرب دول العالم -ولا سيَّما الدول الفقيرة وصاحبة الاقتصادات الضعيفة- بتوتر شديد؛ كما أُصيبت كثير من الدول النامية والفقيرة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الجنوبية بهزَّة كبيرة جدًّا؛ بسبب نقص إمدادات الغذاء، وارتفاع أسعارها عالميًّا؛ نتيجة توقف إمدادات روسيا وأوكرانيا من المحاصيل الزراعية المختلفة، واتخاذ بعض الدول المصدّرة تدابير تحفظية، مثل فرض الهند حظرًا على صادرات بعض محصولاتها الزراعية إلى العالم. ليس هذا فحسب؛ فقد أحدثت هذه الأزمة تضخمًا عالميًّا وارتفاعًا في أسعار السلع والمنتجات؛ ما أدى إلى اختلالات كبيرة في الميزان التجاري لتلك الدول، وتراجع قيمة عملاتها، وعجز عن توفير العملات الصعبة لتلبية حاجاتها الاستيرادية.

كما أنه عقب بعض التغيُّرات المناخية الكبيرة التي اجتاحت العالم -مثل الفيضانات العارمة في باكستان والهند، وموجات الجفاف في دول القرن الإفريقي وغرب إفريقيا والصين وعدد من الدول الأوروبية، وموجات الأعاصير الجليدية في أمريكا وكندا وعدد من دول أمريكا الشمالية؛ فإن ذلك بات ينذر بتفاقم أزمة مصادر الغذاء في العالم، مع انتهاج عدد متزايد من الدول حَظْر تصدير وإعادة تصدير المحصولات الزراعية؛ من أجل إدارة الأمن الغذائي فيها، وتوفير حاجات شعوبها؛ وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاعات جديدة في أسعار المواد الغذائية، ويضع العالم كله أمام مستقبل أكثر قتامة.

وتهدّد هذه الأزمات كثيرًا فكرة العولمة -ومبدأ أن كل العالم يُصنّع ويُورّد إلى بعضه بعضًا، الذي فشِل في الثبات أمام الأزمات، ولا سيَّما “كوفيد-19” التي أدَّت إلى وضع الدول وقطاعات الإنتاج على حافة الانهيار- وتُرجِع الدول إلى مزيد من الاعتماد على الذات، وتخفيض الحاجة إلى العالم الخارجي قدْر الإمكان؛ من أجل تخفيف آثار أزمات التوريد، وتعطُّل سلاسل التوريد العالمية.

مسارات الحلول المعقدة

من الواضح أنه لا توجَد حلول واضحة أو سريعة للخروج من الأزمات العالمية الطاحنة والمتتالية التي باتت تحرق كل أخضر ويابس مع استمرارها؛ وقد تكون المرحلة المقبلة مملوءة بمجموعة متنوعة من الأحداث والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسط سعي القوى العظمى إلى إبقاء امتيازاتها الحالية، وزيادة نفوذها في ظل تَبدُّل الخريطة الجيوسياسية، وارتفاع حدَّة الصراعات والتنافسية الدولية في النظام العالمي. ومن المؤكَّد أن هذه المتغيرات في مراكز القوة بالعالم ستكون لها انعكاسات سلبية على التحديات المعقَّدة والمتنامية التي تواجهها الدول النامية والفقيرة، ولا سيَّما المتمثلة في تفاقم معدلات التضخم والبطالة، ونسب الفقر في مجتمعاتها.

ويبدو أن العالم متجه نحو مستويات جديدة من التأزيم في قطاع الأمن الغذائي العالمي مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ونقص الإمدادات المحلية والخارجية، واتباع العديد من الدول فَرْض حظر على صادرات المواد الغذائية؛ فوفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي؛ فإن هذه المعطيات تنذر بأزمة عالمية حادَّة قد تقذف بأكثر من 222 مليون فرد في 53 دولة وإقليمًا في دائرة الجوع.

ومن هنا؛ فإن راسمي السياسات ومتخذي القرار في المنطقة العربية يقفون أمام عتبات متغيرات جديدة تستدعي بالضرورة إيجاد حلول عملية للاستجابة لأزمة الغذاء المقبلة.

وانطلاقًا من التنوع البيئي الكبير في المنطقة العربية، وتوافر مناطق زراعية مطرية ومروية في دولٍ دون غيرها؛ فإن غاية التكامل الغذائي والتجاري بين الدول العربية تُطِلُّ بإلحاحٍ مرة أخرى، وتبرز أهميتها الكبيرة نتيجة لهذه الأزمة؛ وتدفع هذه المعطيات إلى إعادة بناء الاستراتيجيات الإنتاجية والتجارية والتحالفات الاقتصادية التي ستُعيد هي أيضًا بوصلة التحالفات السياسية.

ومن بين الحلول التي قد تكون مفيدة في هذا المسار تمويل جهود تنمية الإنتاج الغذائي في المنطقة، والتوسُّع في استثمارات زراعة المحصولات الزراعية الضرورية لتوفير سلة غذائية وطنية وعربية كافية، وزيادة درجة التنسيق والتصدير التجاري بين الدول العربية والإقليمية. ولا شكَّ في أن التوسُّع في توظيف التقنيات المتطورة في زراعة المحاصيل الزراعية -من أجل مضاعفة الإنتاجية، ورفع مستويات الكفاءة والجودة- يُعد أحد أهم المقومات الكفيلة لتحقيق المستهدفات المنشودة.

كما أنه تجب إعادة التكتُّل الاستراتيجي العربي مرة أخرى؛ بحيث يتحقَّق التكامل الاقتصادي، الذي وُقِّعت من أجله اتفاقيات عربية متعددة برعاية جامعة الدول العربية -على مَرّ تاريخها- ولكنها لم تجد حظها الكافي من التفعيل والتنشيط. وفي الحقيقة لسنا بحاجة إلى اتفاقيات جديدة؛ بل إلى استخدام ما لدينا من اتفاقيات ومعاهدات اقتصادية وتنشيطها، وعلى رأسها اتفاقية التجارة العربية الحرة.

إن ما أشرنا إليه يجب أن ننتبه لمقدماته أيضًا، ولا سيَّما في جزئية التكامل الاقتصادي؛ فالوطن العربي يملك جميع مقومات التكامل التي من شأنها أن تعزّز أمن الدول العربية وتنافسيَّتها، ودعم العلاقات السياسية فيما بينها؛ فالسودان -على سبيل المثال- يملك قدرات إنتاجية زراعية وحيوانية تكفي لسد الفجوة الغذائية في الوطن العربي المقدرة بأكثر من 30 مليار دولار؛ ولكن ذلك رهن بعامل الاستقرار السياسي، ثم مدى جدية وفاعليَّة الاستثمارات العربية التي تستهدف تطوير البنى التحتية والرقعة الزراعية، وتمكين القدرات الإنتاجية، وتحسين المنتجات الزراعية وجودتها وكمياتها.

هذا مثال فقط للتدليل على الحاجة إلى ثنائيَّة الاستقرار والإنتاج المسؤول بصفتها بدايةً لتحقيق ما نأمله تاليًا، وهو التبادل التجاري بما يكفي لسد حاجاتنا الغذائية، وتأمين المنطقة كاملةً، وعدم تعريضها لهزَّات جديدة لا نعرف ما بعدها ولا تبعاتها.

قد تكون مسألة الأمن الغذائي أولى الحلقات في سلسلة المخاطر التي لا بدَّ من الانتباه إليها، وإيجاد حلول موضوعية لها؛ وستبقى جميع حلقات التنمية المستدامة تُمثّل تهديدًا لركائز الأمن والتنمية في المنطقة العربية، التي لن تتراجع أو تتوازن إلا بتحقيق استثمارات الإصلاحات الاقتصادية لمستهدفات الخطط التنموية، وإحساس المواطن العربي بنتائجها على المستويَيْن الفردي والمجتمعي.