الأمـــن الإنسانــــي والتنميـــــة

...
التاريخ: 06 - 03 - 2023

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د. علي محمد الخوري

بات الأمن الإنساني يُشكل ركيزة أساسية في مفهومَي الأمن القومي والتنمية المستدامة، متجاوزاً المنظور التقليدي المرتكز على التعامل المنفرد مع أنشطة الدولة، وانتقل إلى إيلاء العنصر البشري اهتماماً أكبر انطلاقاً من كونه الوسيلة والغاية، وأصبح هنا يُنظَر إلى الفرد بصفته مكوناً أساسيّاً في بناء المنظومة الأمنية والتنموية، ومعياراً لتحديد عمق وشمولية الخطط الوطنية باختلاف سياقاتها.

ولعلَّ تنامي المجتمعات البشرية، وتطورها، وتزايد حدَّة التحديات الأمنية والتنموية ودرجة تعقيداتها على المستويين الوطني والعالمي، كانت من بين الأسباب التي جعلت مفهوم الأمن الإنساني مسألة لا يمكن إهمالها؛ ودفعت به ليتسع في العقود الأخيرة، ويشمل كل ما يدعم كرامة الفرد وأمنه، وقدرته على التطور والنماء، ويُمثل بُعداً محوريًّا تحميه المواثيق الدولية.

تبلور مفهوم الأمن الإنساني

بالقراءة التاريخية، لم يكن هناك مفهوم محدَّد للأمن الإنساني في المجتمعات القديمة التي ساد فيها الرق والقتل والاستعباد، ولكنه تبلور ليصبح ذا دلالة وارتباط بالسلم العالمي في القرن السابع عشر، وتحديداً منذ معاهدة وستفاليا في عام 1648، التي عَمِلت على تحقيق السلام والتوازن في أوروبا، وأسست باكراً لمفهوم الدولة الحديثة.

وظلت مفاهيم الأمن الدولي وقوانينه متداخلة مع الأمن الإنساني حتى إنشاء عُصبة الأمم في عام 1920 عقب الحرب العالمية الأولى، التي عَدَّته محوراً مهمًّا لتعزيز السلم والأمن والتعاون بين الدول؛ ثم اقترن المفهوم بالبناء الحضاري للأمم والأمن الجماعي مع إنشاء هيئة الأمم المتحدة في عام 1945 عقب الحرب العالمية الثانية، التي أخضعت المفهوم للحماية في القوانين الدولية؛ ثم أصبح المفهوم أكثر شيوعاً في تسعينيات القرن الماضي، وجزءاً من المستهدَفات العالمية للتنمية المستدامة مع اهتمام المنظمات الدولية بالعنصر البشري بصفته فرداً فاعلاً ومؤثراً في أمن المجتمعَين المحلي والدولي، وتنميتهما.

وعلى الرغم من اختلاف التعريفات؛ فإن مفهوم الأمن الإنساني أصبح يرتبط ويتقاطع مع مجالات ذات أبعاد متنوعة تمس الأمن الغذائي، والأمن الصحي، والأمن الاقتصادي، والأمن البيئي، والأمن الشخصي، والأمن السياسي، والأمن الثقافي، والأمن المعرفي، والأمن الاجتماعي. ومع أن هذه الارتباطات تتعدد وتتنوع؛ فإن المرتكزات الأساسية لمفهوم الأمن الإنساني مبنية على عَدّ الفرد جزءاً محوريًّا في التعامل، وإيجاد الحلول للقضايا والسياسات والمشكلات الأمنية والتنموية.

الاهتمام الدولي

من الواضح أن موضوع الأمن الإنساني -بصفته مفهوماً دوليًّا- بات يتسع ويأخذ حيزاً أكبر من الاهتمام السياسي في النظام الدولي بصفته قضية استراتيجية ذات أولوية. ومن المؤكد أنه سيكون من بين الآليات الرئيسية لحماية الحقوق الإنسانية للأفراد والمجتمعات في العالم، وسيمثل وحدة أساسية ستُبنى عليها أسس العلاقات الدولية، التي ستحكمها -بطبيعة الحال- أنظمة القانون الدولي العام.

ومع سعي الدول الغربية إلى ترسيخ مثل هذه القوانين في المجتمعات حول العالم -التي ستُوجِد أرضية لضمان حقوق السلامة الشخصية والتنمية الإنسانية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة للأفراد-؛ فذلك قد يعني احتمال محاسبة الحكومات والدول، وتعريضها للمساءلة الدولية في حال عدم التزامها مثلَ هذه القوانين والمعايير التي قد يتعارض بعضها مع الثقافات والهُويات الوطنية.

ولكنْ -على الجانب الآخر، وبالرجوع إلى جوهر السياقين العربي المحلي-؛ فإن من الواجب الانتباه إلى حقيقة أن الغايات التنموية أصبحت تعتمد اليوم على عنصرَي الاستقرار السياسي والاقتصادي، اللذَين لن يتحققا إلا على أعمدة رئيسية منها أولوية العدالة، وشعور المواطن وإيمانه بها وبوجودها، والتماسك الاجتماعي تحت مظلة الوطن، وأهدافه الحالية والمستقبلية.

وذلك يبرز معه حقيقة وموضوعيَّة أن الحلول الوطنية لمواجهة التحديات والمخاطر الأمنية -سواء على المستوى المحلي، أو الإقليمي، أو الدولي- مرهونة بقدرة الدولة على تنمية مصالح الفرد والمجتمع المدني، وحمايتها؛ وهو ما يستوجب من راسمي السياسات وصنَّاع القرار تكوين فَهْم دقيق للواقع والمأمول، والتركيز على الإصلاحات المؤسساتية والتشريعات والقوانين التي تدعم تطور الأفراد ونماءَهم، ودعم قدراتهم وإدماجهم في دفع عجلة التنمية والإنتاج.

الدول العربية

لا شك في أن الدول العربية تتفاوت في مدى توفيرها آليات الحماية والتمكين لأفرادها ومجتمعاتها؛ ولكنْ -كما نراه- فإن الدول التي أولت محور الأمن الإنساني أهمية في خططها، واستطاعت تكييفها مع نماذجها التنموية، تمكَّنت من تحقيق إصلاحات حقيقية، وبناء قدرات اقتصادية تنافسية.

وتبرز هنا دولة الإمارات العربية المتحدة لتقدم نموذجاً لافتاً للنظر في ساحة الأمن الإنساني ونجاح استثماراتها في بناء المكون الاجتماعي، وإشراكه في تحقيق المستهدَفات التنموية الوطنية. وتوضح المؤشرات الدولية مدى الترابط بين المكون الاجتماعي وجهود التنمية؛ فقد استطاعت دولة الإمارات أن تحتل المرتبة الثانية عشرة عالميًّا في تقرير التنافسية العالمية الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) في عام 2022، واحتلت المركز الـ26 عالميًّا وصُنّفت ضمن دول “التنمية البشرية العالية للغاية” في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادر في عام 2022.

وتقدم دولة الإمارات منذ تأسيسها نموذجاً متفرداً في عَد المواطن الثروة الحقيقية، ومحور سياساتها، وعمِلت على توفير أعلى درجات الأمن والأمان الاجتماعي، عن طريق توفير الحاجات الضرورية من المساكن والمرافق، والتركيز على تطوير قطاعات الصحة والتعليم والقطاعات الخدمية الأخرى. ويتجلَّى هذا النموذج في اهتمام الأجندة الوطنية لدولة الإمارات بتطوير البناء الفكري لأفراد المجتمع، وتمكين قدراتهم على دعم المستهدَفات الوطنية، وصاحبَت ذلك جهود كبيرة في تعزيز الآليات التنفيذية، وتبني مجموعة واسعة من الهياكل التشريعية، والأطر القانونية والمؤسسية؛ لضمان سيادة القانون والعدل والأمن والسلامة، وترسيخ القيم التي تدعو إلى احترام كرامة الإنسان والنزاهة والشفافية في العدالة والمساواة.

التحولات العالمية

في ظل التحولات العالمية المتسارعة، وخاصة تلك التي تدفع بها التكنولوجيات المتقدمة، والمسرح الاقتصادي والاجتماعي غير المطمئن في الدول العربية، لم يعُد من الممكن فصل علاقة الفرد ووضعيّته بنماء الدولة، وبات يتطلب من راسمي السياسات وصنَّاع القرار تبني عقلية مختلفة للتعامل مع متطلبات تعزيز الأمن الإنساني في مجتمعاتنا العربية بشقيه من الحاجات والحقوق.

ويجب على هذه العقلية أن تهتم أولاً بتوفير الحلقات الأولى من الضروريات المتمثلة في حاجات الإسكان والتعليم والصحة، بالتزامن مع تنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية تدعم رفع المستوى المعيشي، ثم إيجاد الآليات الكفيلة لإدماج الأفراد في إنجاز المخططات والمشروعات التنموية.

ومن الضروري أن تتزامن هذه الجهود مع إيجاد الأطر التشريعية والقانونية لحماية أمن الأفراد ووقايتهم على جميع المستويات الاقتصادية، والصحية، والمجتمعية، والثقافية، والأخلاقية، وغيرها، وعَدّ الفرد وحدة أساسية، والمحور والغاية لجميع السياسات العامة.

وقد يكون الوقت مناسباً لتتبنى الدول مفهوم الأمن الإنساني بصفته سياسة ذات أولوية عُليا تتبنَّاها الحكومات ضمن رؤيتها الاستراتيجية في التنمية الوطنية؛ بجعل العمل المؤسساتي مُوجَّهاً أكثر نحو التمكين؛ وذلك يعني أن تضع الحكومات ضمن أولوياتها دعم المؤسسات المجتمعية والقطاع الخاص، وتمكينهما من تأدية دور الظهير الحقيقي للحكومات؛ ففي ظل ارتفاع معدلات البطالة والفقر في المجتمعات العربية -وهي أكبر مهددات الأمن الاقتصادي، والوجودي إن صح القول- أصبح من غير الممكن للماكينة الحكومية منفردةً أن تجر القافلة الاقتصادية التي لم تعُد قادرة على التقدم بعجلاتها التقليدية، أو تقديم حلول ذات تأثير مستدام.