أبوظبي
المصدر: مفكرو الإمارات
أ.د.علي محمد الخوري
بينما يقف العالم على حافة ثورة صناعية جديدة، يبدو أن تكنولوجيا الحوسبة الكمية (Quantum Computing Technology) تجهّز نفسها لتصبح قوة الدفع الرئيسية لها؛ فعلى النقيض من التكنولوجيا التقليدية التي تعمل وفقًا لقواعد الفيزياء الكلاسيكية، تتعامل التكنولوجيا الكمية مع الجُسيمات على المستوى الذري ودون الذري، وهي خاصيَّة تمنحها إمكانيات حوسبية لا مثيل لها لإحداث تغييرات ثورية في قطاعات مثل الاتصالات، والصحة، والمالية، والطاقة، والدفاع، إلى جانب تطوير الأدوية وتطبيقات الفضاء؛ وهو ما يفسر تدافع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين والاتحاد الأوروبي، لتخصيص ميزانيات ملياريَّة لدعم قطاع الحوسبة الكمية في خضم التنافس المحتدم في ساحة السباق التكنولوجي العالمي.
التكنولوجيا الكمية وأثرها في الاتصالات
لطالما ارتبطت أجيال تقنيات الاتصال بالتطوُّر الحضاري والعلمي والتكنولوجي. وتُقدم الاتصالات الكمية، التي تُعد فرعًا من التكنولوجيا الكمية، خصائص ومزايا مُتفرّدة لقطاع إدارة الأعمال والأمن السيبراني؛ نظرًا إلى قدراتها الفائقة في تشفير المعلومات المستمدة من ظواهر الفيزياء الكمية، ونقلها، وحمايتها. وسيكون الأمر بالنسبة إلى القدرة، التي تقدمها الاتصالات الكمية، أشبه بتخيُّل عالم رقمي تكون فيه الاتصالات وبيئات الأعمال والبنى التحتية والمَرافق غير قابلة نظريًّا للاختراق والقرصنة، وشبه مؤمَّنة من الهجمات المعادية.
الحوسبة الكمية: الرافعة القوية لدفع الحدود في العلوم
تتميَّز الحوسبة الكمية بقدرتها على استغلال الظواهر الكمية في المعالجة التحليلية للبيانات، وتنفيذ كثير من العمليات الحسابية المعقدة على نحوٍ أسرع “آلاف المرات” مقارنةً بما تنفذه أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية؛ وهذه القدرة على الحوسبة المعززة هي ما تجعل أجهزة الكمبيوتر الكمية أدوات ثورية يمكنها التعامل مع المشكلات المعقدة، مثل فهم التغيرات المناخية، وميكانيكا الجيولوجيا الأرضية، ووضع الاستراتيجيات الفعالة لتخفيف التحديات البيئية، أو فهم الأمراض وتطوير علاجات وعقاقير جديدة. وسيحوّل حجم القوة الحسابية لأجهزة الكمبيوتر الكمومية هذه الأجهزة أدواتٍ ثورية تستطيع دفع التقدم العلمي والمجتمعي إلى آفاق جديدة قد يكون سقف سمائها مخيلة البشر.
الحوسبة الكمية وأثرها في تطبيقات الذكاء الاصطناعي
في عالم اليوم المعتمد على البيانات تُعد القدرة على معالجة كميات كبيرة من المعلومات وتنفيذ التحليلات المعقدة أحد التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي. وتأتي الحوسبة الكمية لتوفر قوة حسابية هائلة مع معالجة متعددة وموازية، وتمكين تقنيات التعلم العميق والشبكات الصناعية من التعامل مع المشكلات الضخمة، وتقدم الحلول في زمن قياسي وما نشهده اليوم من ثورة في الذكاء الاصطناعي سيُعد مرحلة نمو باكرة مقارنةً بما لو دخلت فيه تقنيات الحوسبة الكمومية، التي ستنتقل بالذكاء الاصطناعي إلى مستويات غير متصورة حالياً على صعد المجتمع والصناعات والاقتصاد العالمي.
السياسات العامة لتسهيل القفزة الكمية
للوصول إلى فَهْم القدرات الثورية لتكنولوجيا الكم وتطويرها نحن بحاجة إلى مجموعةٍ من الأطر والسياسات البعيدة المدى تتطلب من صانعي السياسات النظر في المبادرات التي تعزز الاستثمار في البحث العلمي، وخاصةً تعليم القدرات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتعزيز التعاون مع مؤسسات البحوث الكمية العالمية؛ كما يمكن للسياسات الوطنية المواتية تحفيز التعاون التقني والبحث في مجال التكنولوجيا الكمية بالمنطقة وتطويرها.
ويمكن أن تسهم مبادرات رعاية الشراكات بين الجامعات العربية والأجنبية، والقطاعين العام والخاص، في البحث والتطوير إلى تسريع اعتماد تقنيات الكم عن طريق الدعم التنظيمي، ولا سيَّما أن شركات التكنولوجيا تملك قدرات تشغيلية وتقنية متطورة وأكثر جرأة في طرح منتجات تتواءم بكفاءة مع متطلبات السوق والتنمية.
خطط وأجندات وطنية
وضعت كثير من الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والهند، خططًا ومستهدفات وطنية لتعزيز تقدُّمها في مجال الحوسبة الكمية. وفي عام 2018 مُرِّر قانون لتطوير استراتيجية فيدرالية للحوسبة الكمية في الولايات المتحدة، وأجاز 1.2 مليار دولار لتمويل البحث والتطوير الكمي، واشتمل على أحكام للشراكات بين القطاعين العام والخاص؛ ما شجَّع شركات التكنولوجيا، مثل “آي بي إم”، و”جوجل”، على الاستثمار في بحوث الحوسبة الكمومية، وأفسح المجال للتعاون مع المؤسسات البحثية الأكاديمية والحكومية.
وعلى الرغم من التفوق النسبي للولايات المتحدة في تطوير قدرات الحوسبة الكمية؛ فإن الصين أصبحت تكتسب زخمًا في ريادة تطوير الاتصالات الكمية، يظهِره ارتفاع إجمالي براءات اختراع تكنولوجيا الكم المقدمة من الشركات الصينية من 137 في عام 2020 إلى أكثر من 800 في عام 2022. ويُذكر أن الصين بصدد بدء تشغيل أطول شبكة كمية في العالم على مسافة آلاف الكيلومترات بين شنجهاي وبكين، إلى جانب مشروعاتها في الاتصالات الكمية عبر الأقمار الصناعية.
وفي هذا السياق، وللأهداف نفسها أطلقت حكومات عدَّة في مختلف دول العالم مبادرات مختلفة بميزانيات سنوية تُقدَّر بمليارات الدولارات؛ لدفع جهود هندسة السمات الكمومية الدقيقة، واستخدامها لتطوير مزايا تنافسية في مجالات مثل التمويل واللوجستيات والتصنيع المتقدم، والاستفادة من تأثير تطبيقاتها في الاقتصادات الوطنية وسوق العمل.
التكنولوجيا الكمية في الوطن العربي
بدأت بعض الدول العربية أخيرًا تهتم بالإمكانيات التحويلية للتكنولوجيا الكمية. وتحتل دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر موقع الصدارة في إنشاء مجموعات بحثية مخصصة للحوسبة الكمية وتبَنّيها؛ ولكنْ على الرغم من بعض البدايات الواعدة؛ فإن تطوير التكنولوجيا الكمية في الوطن العربي يواجه عددًا من التحديات، مثل نقص العمالة الماهرة، ومحدوديَّة الاستثمارات في البحث والتطوير، وعدم وجود الموارد المادية والمؤسسية والبنى التحتية اللازمة لدعم تطوير تقنيات الكم وتطبيقها.
الأمن القومي
قد يكون تهديد الأمن القومي مصدر القلق الأول، والدافع إلى الاستثمار في التقنيات الكمومية وسبر أغوارها، سواء الحوسبة الكمية أو شبكات الاتصالات. وينبغي أن يتسع استيعاب صانعي السياسات لتحديات هذه التكنولوجيا التي تضعها للأمن القومي، ولا سيَّما الخطر الكامن في إمكانية استغلالها بصفتها أداةً فعَّالة في الجرائم الإلكترونية، وتهديد قطاعات مثل الكهرباء والطيران والدفاع والطاقة والبنية التحتية الحيوية؛ فمستوى التدخل المطلوب هنا لا يقل عما يدور في ساحة التكنولوجيا النووية؛ فما يشغل الولايات المتحدة -على سبيل المثال- هو قدرة الصين على تطوير كمبيوتر كمي يمكنه كسر خوارزميات التشفير التي تحمي المعلومات السرية والاتصالات الآمنة، وهو ما يبين أن التكنولوجيا الكمية ستكون عاملًا محوريًّا في حروب المستقبل.
ويفرض ذلك كله بطبيعة الحال ضرورة تحديث أنظمة الصناعة الحكومية من جانب، ومن جانب آخر وجود أُطر عمل واتفاقيات وطنية ودولية لمراقبة الاستخدامَين المحلي والعالمي لتكنولوجيا الاتصالات الكمية، سواء في التطبيقات المدنية أو العسكرية، وضمان عدم تحوُّلها أداةً للأنشطة الإجرامية أو الإرهابية.
الآثار الأخلاقية والمجتمعية لتكنولوجيا الكم
من الضروري -عقب هذه الثورة الناشئة- النظر في الآثار الأخلاقية والمجتمعية المصاحبة لهذه التكنولوجيات الثورية أيضًا؛ إذ يجب مثلًا إجراء معالجة استباقية للقضايا المتعلقة بالخصوصية في الاتصالات الكمية، ومسألة تأثُّر الوظائف مع استمرار أتمتة المهام وسرعتها، وكذلك الفجوة الرقمية؛ ما يفرض على صانعي السياسات تطوير لوائح تحمي الخصوصية الفردية، ووَضْع استراتيجيات لخطط انتقال القوى العاملة، وضمان الوصول العادل إلى التقنيات الكمية.
ومن الواضح أن التكنولوجيا الكمية تقف كمنارة لثورة صناعية قد تُعيد تشكيل مجتمعاتنا وممارساتنا الحالية. وبينما تواجه مختلف دول العالم، ومنها الدول العربية، تحديات في المجال الكمي وتسخير إمكانياته؛ فإن الإمكانيات الموعودة ستكون ثوريَّة، من قدرات الحوسبة الأسرع والأكثر قوة إلى الاتصالات شبه الآمنة تمامًا؛ وستبقى سيناريوهات تطور التطبيقات التجارية والمالية والعسكرية مدهشة ومثيرة.
ويمكننا أن نتوقَّع أن يكون للتكنولوجيا الكمية -في السنوات القليلة المقبلة- تأثير كبير ومتزايد في مختلف الصناعات، وفي تطوير النمو الاقتصادي على نحو غير مسبوق؛ ولكنْ بينما يستعد العالم لاحتضان ثورة تكنولوجية لا مثيل لها؛ فإن المهمة التي تنتظر صانعي السياسات لا تنحصر في التحضير لهذا الانتقال فحسب؛ بل تشمل أيضًا تشكيله -بفاعليَّة- باتباع نهج استباقي وتعاوني في صياغة اللوائح لمواجهة المخاطر المحتملة، وتوجيه المجتمعات نحو الاستخدامات المفيدة لهذه التقنيات بما يدعم نمو قطاع الأعمال، وتوفير فُرص العمل، وتعزيز دعائم النمو الاقتصادي والأمن القومي.
عن الاتحاد | |
---|---|
المبادرات | |
المعرفة | |
الخدمات | |
المركز الإعلامي | |
اتصل بنا |