المنصات الإعلامية في الوطن العربي بين المخاطر والتحديات والفرص

...
التاريخ: 04 - 10 - 2023

أبوظبي

المصدر: مفكرو الإمارات

أ.د. علي محمد الخوري

تُمثّل المنصات الإعلامية اليوم جانبًا مهمًّا من تجارب حياتنا اليومية؛ فهي تُكوِّن فهْمنا الشخصي للعالم من حولنا، والآلة التي تؤثر في معارفنا وسلوكياتنا الفردية والجماعية، وكذلك في تكوين قناعاتنا بشأن الأحداث الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولمثل هذه المنصات ثقل وأهمية خاصة في المنطقة العربية، بصفتها بيئات رقمية افتراضية وناشئة قادرة على إنتاج محتوًى رقمي تُمكِنه إعادة برمجة القِيم المجتمعية التي قد لا تكون متطابقة مع قِيمنا الحقيقية الأصيلة؛ ليُعاد نشرها في شبكات التواصل الاجتماعي الحديثة، التي تؤدي هي أيضًا إلى إخراج مشهد اجتماعي وسياسي ديناميكي جديد، يدعو بطبيعته إلى القلق على مستقبل المنطقة، في ظل الإمكانيات الكبيرة لهذه المنصات في الانتشار والتوسُّع، واختراق العقول، وتكوين الرأي العام.

الدور المزدوج للمنصات الاجتماعية الرقمية

من الجلي أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت تؤدي أدوارًا مزدوجة، وأداة محفِّزة للتغيير وبناء المعتقدات الأيديولوجية المقننة والمُوجهة. ولنا في الربيع العربي، والأحداث العالمية، من الدلائل والشواهد ما يكفي؛ فلا تزال المنصات الرقمية تمثل منبعًا للاضطرابات والانفلاتات الأمنية، وتعطيل الهياكل الاجتماعية والسياسية القائمة.

وتهدف الصناعة الإعلامية العالمية اليوم -فيما يبدو- إلى تحويل الفرد العربي “كيانًا ماديًّا واقتصاديًّا” يخلو من الانتماء والخصوصية الثقافية. وقد يؤدي هذا المحو الممنهَج للهُوية الثقافية إلى تناقض في القِيم التي تقوم عليها المجتمعات العربية، سواء عن طريق الإغراق المعلوماتي، أو ترسيخ مفاهيم خطأ، وتحوُّلها مُسلَّمات تستقر في الوعي العام، وإعطاء صور مزيفة عن الواقع، وخلق مجتمع متجانس مفاهيميًّا يتألف من نماذج بسيطة متشابهة تستجيب تلقائيًّا لمتطلبات وسائل الإعلام.

ووسط هذا الإغراق كلِّه نجد أن الدور المفقود هو التوظيف الأمثل لهذه المنصات في المنطقة العربية، واستخدامها للحفاظ على منظومة القِيم المشتركة، وتأكيد الهُوية العربية في عالم يزداد عولمةً كل يوم؛ وبات من الضروري التعامل مع هذا الدور المزدوج لهذه المنصات بمسؤوليةٍ؛ لمنع الإضرار والتشويه الثقافي، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

الهيمنة العالمية على الإعلام

تستخدم القوى الغربية المهيمِنة المنصات الإعلامية أدواتٍ استراتيجيةً للتأثير في الرأي العام، وإدامة الصور النمطية التي تخدم أهدافها، وبسط نفوذها، والتحكم في النتائج الاجتماعية والسياسية؛ فبالنظر إلى تأثير هذه المنصات الممتد والعابر للثقافات والمجتمعات؛ فقد أصبحت قدرتها على زعزعة البنى الثقافية، والتحريض على صراعات القِيم، واضحة بشكل ينذر بالمخاطر المحدقة التي تبدو في أيسر أشكالها مخيفة للغاية؛

فتصميم المنصات الإعلامية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، معتمد على التحكُّم في الخرائط المعرفية الدماغية للأفراد، وتشكيل الفهْم الجماعي للمجتمع وفقًا للاستراتيجيات الموضوعة؛ كما أن ترويج الروايات المتنوعة، بصرف النظر عمَّا إذا كان المحتوى المسرود حقيقيًّا أو غير ذلك، يهدف أساسًا إلى تغيير الواقع الإدراكي ووعي الشعوب؛ وبذلك يؤدي إلى تكوين فَهْم مُشوَّه للأحداث، أو كما يريد تصويره المُتحكم في خيوط اللعبة.

الخطط الوطنية

تتطلَّب معالجة المشهد الإعلامي المتحول تضافر الجهود على المستوى الوطني بمختلف مؤسساته؛ فالتركيز هنا يجب أن يكون على رفع مستوى الوعي العام، وتشجيع الحوار البنَّاء، وضمان تداول المعلومات الدقيقة، ومنع انتشار المعلومات المضلِّلة. ولا بدَّ أن تراعي التدابير المتخذة دمج وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية لإنتاج محتوًى أفضل تمثيلًا لقِيم المجتمعات العربية الأصيلة ومفاهيمها، والتصدي للتأثيرات السلبية لمنصات الإعلام الغربية.

وتقدِّم دولة الإمارات العربية المتحدة هنا نموذجًا فريدًا باستخدامها الفعَّال لاستراتيجية وطنية إعلامية متوازنة تحمي هُويتها الثقافية، واتباعها سياسات تؤكد الوحدة الوطنية، والمشاركة العالمية المفتوحة القائمة على التسامح والسلام؛ كما استثمرت دولة الإمارات في منصاتها الإعلامية لمعالجة القضايا الاجتماعية، وتسهيل الحوار والاتصال بين مؤسساتها والمجتمع، وفي التثقيف ونشر المعرفة والتعليم؛ ويستدعي هذا النموذج في الخطاب الإعلامي محاكاته والاستفادة منه على مستوى المنطقة العربية.

ومن جهة أخرى يكمن مفتاح المواجهة الناجحة للتحديات في الفهم العميق لديناميكيات الهيكلية الإيكولوجية الواقعية لهذه المنصات الإعلامية، ومن ثم اتباع نهج شمولي يتعامل مع هذه الهيكلية بعقلانية؛ ويشبر ذلك إلى أهمية الارتقاء بمستوى الأنظمة التعليمية، ودعم المؤسسات الإعلامية، وتمكين منظمات المجتمع المدني؛ وهي كلها إجراءات أساسية لتعزيز الهوية الثقافية العربية، والتخفيف من تأثير الإعلام الغربي.

وينبغي هنا الانتباه إلى المعتقَد السائد بشأن المنصات الحديثة، واستهدافها الرئيسي والممنهَج للبناء الأسري الذي يشكل اللبنة الأساسية لبناء المجتمعات والأوطان كلها بالتبعية؛ وذلك يستوجب التركيز على صيانة قِيم الأسرة وحمايتها؛ لكونها الجدار المنيع وخطَّ الدفاع الأول المواجه للقِيم المناقضة لها.

اللغة الإعلامية الموحَّدة

قد يساعد إنشاء لغة إعلامية موحَّدة -على المستوى الوطني، أو الإقليمي- في مواجهة الصور السلبية السائدة عن المنطقة العربية، وهُويتها الدينية والثقافية في وسائل الإعلام الغربية؛ ولا بدَّ أن ترتبط هذه المبادرة بإنتاج الوسائط البديلة التي تقاوم الاختزال، وتقديم الإنسان العربي بصورة إيجابية بصفته فردًا فاعلًا ومنتجًا، لا موضوعًا للاستهلاك، ونقله من وضعيَّة المُتلقي المُذعن إلى المؤثر الإيجابي في التفاعلات التي تحدُث في منطقته والعالم.

ولا بدَّ في هذا السياق من تجاوز التحديات التي تواجهها المنافذ الإخبارية في التكيُّف مع تفضيلات الشرائح المجتمعية المعتمِدة بشكل متزايد على الإنترنت للحصول على المعلومات، والتفاعل مع المحتوى الإخباري والمعلوماتي وبرامج الأقمار الصناعية من الدول الغربية. وقد تكون أولى الخطوات هنا هي إجراء تحليل للمحتوى العام في وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يوفر رؤًى واقعيةً بشأن تأثيره العاطفي في الجمهور العربي، ويساعد على فهْمٍ أكثر دقةً لمخاطر انتشار المنصات الإعلامية الغربية وغير الرسمية في المنطقة، وآثارها، ومن ثَمَّ تكييف استراتيجيات الاتصال المناسبة.

وفي الختام لا بدَّ من الإشارة إلى أن منصات الإعلام الحديثة ستبقى تمثِّل تحديات عملاقة، وستوفر في الوقت نفسه فرصًا للمشاركة البنَّاءة والتغيير الإيجابي. ومن المهمِّ للوطن العربي تسخير قوة الإعلام بشكل مسؤول؛ للحفاظ على الأمن الفكري في مجتمعاته وتراثه الثقافي الغني، والإسهام بنشاط في الحوار العالمي، ومواجهة الصور النمطية السلبية، وتعزيز فهْم أكثر دقةً لثقافاته ومجتمعاته، وإنشاء مساحة متينة ولائقة في المشهد الإعلامي العالمي.