الجمركة السياسية وانهيار الميثاق الاقتصادي الدولي

مدة القراءة 6 دقائق

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

لم تعد الرسوم الجمركية مجرد أداة سياساتية تُستخدم لحماية الأسواق الوطنية أو لتعديل الميزان التجاري بين الدول، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى أداة صدام تُستخدم في إطار صراعات جيوسياسية أوسع، تهدف إلى فرض الهيمنة ومقاومة النفوذ الاقتصادي المتنامي لبعض القوى الدولية. هذا الاستخدام للصلاحيات السيادية الجمركية لم يعد محصورا في التنافس الاقتصادي البحت، بل أضحى يمس بنية النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية على مفاهيم التجارة الحرة، والتكامل الاقتصادي، والمؤسسات الدولية كضامن للثبات.

في ظل هذه التحولات، باتت الحروب التجارية واقعًا ملموسًا يهدد الاستقرار الاقتصادي والمالي العالمي. تتجاوز آثار هذه الحروب حدود ارتفاع الأسعار وتباطؤ التجارة، لتطال مبدأ التعاون نفسه الذي شكل الأساس المشترك للنظام الدولي الليبرالي.

ما نشهده من تصاعد في استخدام الرسوم كأداة للضغط السياسي والاقتصادي، لا يمكن قراءته بمعزل عن الانزياح الأعمق في النظام الدولي، حيث تتراجع قواعد التعددية أمام صعود رؤى صفرية للصراع، ترى في المكاسب النسبية تهديدًا، لا فرصة. وهذا ما يجعل من الحروب التجارية، خاصة بين القوى الكبرى، ساحة اختبار لنمط جديد من العلاقات الدولية، يرتكز على المنافسة الشاملة وليس التعاون الهيكلي.

على مستوى النمو الاقتصادي العالمي، تفرض الرسوم الجمركية تكاليف مضاعفة على كل من المستهلكين والمنتجين. فهي ترفع من أسعار السلع النهائية، وتؤدي إلى تآكل القوة الشرائية، وتخلق ضغطًا تضخميًا يمتد عبر الاقتصاد. غير أن التأثير الأعمق لا يكمن فقط في هذه المؤشرات المباشرة، بل في التداعيات الهيكلية طويلة الأجل التي تطال سلاسل التوريد الدولية. فالاقتصاد العالمي المعاصر قائم على شبكات إنتاجية مترابطة، يتوزع فيها التصنيع والتجميع والتصدير عبر بلدان وقارات متعددة. وعندما تتدخل الرسوم الجمركية كعائق قسري داخل هذه الشبكات، فإن النتيجة تكون انهيارًا في الكفاءة، وارتفاعًا في التكاليف، واختلالًا في التوقيت، ما يضرب جوهر النموذج الذي يقوم عليه اقتصاد ما بعد العولمة.

وبالموازاة مع ذلك، تخلق الحروب التجارية حالة من انعدام اليقين لدى المستثمرين، الذين يترددون في ضخ رؤوس الأموال في مشاريع طويلة الأمد ضمن بيئة غير مستقرة. هذا الانكماش في الاستثمار لا يُفضي فقط إلى تباطؤ النمو، بل ينعكس أيضًا على فرص العمل، ونقل التكنولوجيا، واستقرار الأسواق المالية.

ومع اتساع نطاق هذه السياسات، يتقلص حجم التجارة العالمية وتتراجع جاذبية السلع المستوردة، ليدفع الدول إلى الانكماش الاقتصادي الطوعي بدافع الحذر الاستراتيجي، وهو ما يسرع من انتقال العدوى التجارية من التوتر إلى الركود.

التأثير لا يقتصر على المعطيات الاقتصادية فقط، بل يمتد إلى البنية السياسية للنظام العالمي. فعندما تتحول الرسوم إلى أدوات للردع السياسي، تُصبح العلاقات الدولية محكومة بمنطق العقاب والرد، لا بمنطق الشراكة. وهذا يعيد إحياء النزاعات الوطنية القديمة تحت قشرة اقتصادية، ويقوض دور المؤسسات المتعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية التي باتت غير قادرة على ضبط هذا التآكل المستمر في قواعد اللعب المشترك.

التبعات المالية لهذا الصراع شديدة العمق. تتقلب الأسواق بصورة حادة نتيجة فقدان الثقة، وتنهار العملات في الدول المعتمدة على التصدير، وتنسحب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة بحثًا عن ملاذات أكثر أمانًا. هذا النزوح المالي يؤدي إلى أزمات سيولة، وارتفاع تكاليف الاقتراض، ويضعف قدرة الحكومات على تمويل خدماتها الأساسية أو سداد ديونها الخارجية.

الوجه الاجتماعي لهذا الصراع لا يقل قسوة. فعندما تُغلق المصانع وتتوقف حركة الصادرات وتفقد الشركات قدرتها على المنافسة، تكون الوظائف أول الضحايا. ويتحول الركود من مؤشر اقتصادي إلى أزمة إنسانية، تؤثر بشكل خاص على الفئات الضعيفة، التي تجد نفسها عاجزة عن التعامل مع تزايد الأسعار، وتقلص فرص العمل، وتدهور الخدمات العامة. وفي مثل هذه البيئة، تتسع الفجوة الطبقية، ويزداد التوتر المجتمعي، وتترسخ مشاعر التهميش، ولتفتح الباب أمام الشعبويات والتطرف السياسي.

إن هذا التآكل المتسارع في بنية النظام التجاري العالمي يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات فنية أو تعديل في التعريفات. ما نحتاجه اليوم هو إعادة صياغة لمفهوم “المصلحة العامة الدولية”، وفق تصور أكثر واقعية وعدالة، لا يُقصي أحدًا، ولا يُخضع الجميع لمنطق القوة. فاستقرار العالم لا يمكن أن يُبنى على سلاسل إمداد محطّمة، وأسواق مرتجفة، وعلاقات ثقة منهارة.
في هذا السياق، فإن على القوى الدولية الكبرى أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية، وتعيد ضبط أولوياتها بما يحفظ النظام الاقتصادي العالمي من الانهيار الداخلي. لا يمكن لأي دولة، مهما كانت قوتها، أن تصمد وحدها في نظام متفكك. والمصالح القومية لا تتحقق بالمجابهة بل بالموازنة، ولا بالمقاطعة بل بالتفاوض.

إن الحروب التجارية ليست مجرد اضطراب اقتصادي، بل هي ملامح أولية لزمن دولي جديد، يتشكل أمام أعيننا. وإذا لم يُصغِ صناع القرار جيدًا لإشارات هذا التحول، فإننا قد نجد أنفسنا في المستقبل القريب أمام نظام عالمي أكثر انقسامًا، وأقل استقرارًا، وأكثر هشاشة مما عرفناه من قبل.

في النهاية، يجب أن ندرك أن الرسوم الجمركية، عندما تتحول من أداة سيادية إلى آلية صراع، فإنها لا تجر العالم إلى الطاولة، بل إلى الحافة. والحافة، كما يعلمنا التاريخ، لا تكون سوى بداية لانحدار لا أحد يستطيع التحكم في سرعته أو عمقه.