القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
في مطلع القرن الحادي والعشرين، هيمنت على الخطابات التنموية مفاهيم العولمة بصيغتها الليبرالية، حيث جرى تقديم الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة بوصفها الطريق الحتمي نحو النمو والازدهار. ومع مطلع العقد الثالث من هذا القرن، تبيّن أن تلك العولمة لم تكن نهاية التاريخ، بل كانت مرحلة مؤقتة في حركة أعمق يقودها الآن الاقتصاد الرقمي بوصفه الموجة التي تعيد تشكيل السلطة، والهيمنة، وفرص النهوض.
في هذا المشهد المتقلب، يبدو العالم العربي كمن يقف عند نقطة انعطاف تاريخية، تتقاطع فيها فرص نادرة مع تحديات وجودية. فالاقتصاد الرقمي لم يعد محصورًا في نطاقات تكنولوجيا المعلومات، بل تحوّل إلى بنية تحتية عابرة للقطاعات، تعيد تنظيم حركة القيمة، وتغير طبيعة العمل، وتمنح من يمتلك أدواتها قدرة غير مسبوقة على التأثير في هندسة الاقتصاد العالمي. أما العولمة الجديدة، فلم تعد قائمة على تدفقات السلع وحدها، بل على تدفقات البيانات، والخوارزميات، والمنصات العابرة للسيادة.
في هذا الإطار، تُتاح للعالم العربي فرصة لإعادة صياغة موقعه ضمن هذا النظام العالمي المعاد تشكيله. فالانتقال من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الابتكار لم يعد مطلباً تنموياً، بل خيارًا وجوديًا. فعبر توظيف أدوات الاقتصاد الرقمي، تستطيع الدول العربية تحرير قطاعاتها الإنتاجية من الانكشاف الأحادي على المواد الأولية، والانفتاح على مجالات واعدة تشمل التجارة الإلكترونية، والسياحة الذكية، والخدمات المالية الرقمية، والمحتوى العربي متعدد اللغات.
غير أن هذه الإمكانات لا تتحقق في فراغ. فمفتاح الانتقال يكمن في قدرة الدولة العربية على صياغة رؤية تنموية رقمية، لا تقتصر على تحديث البنية التحتية الرقمية، بل تشمل أيضًا إعادة هيكلة المنظومات التعليمية، ووضع سياسات صناعية ذكية، وإيجاد بيئة تشريعية مرنة تستوعب التحولات، بدل أن تقاومها. المطلوب هنا ليس تسابقًا على جذب الشركات العالمية، بل بناء كتلة رقمية عربية قادرة على الإنتاج، والمنافسة، وصياغة النماذج.
تزداد الحاجة إلى هذا التحول مع اتساع الفجوة الرقمية داخل المجتمعات العربية، سواء بين الدول أو بين مراكز الحضر والأطراف الريفية. كما يتعاظم التحدي حين نلاحظ ضعف الأنظمة القانونية المنظمة للأنشطة الرقمية، وغياب قواعد ناظمة لاستخدام البيانات، ومحدودية التشريعات في مواجهة أخطار الاختراقات السيبرانية والتلاعب بالمعلومات. لا يمكن بناء ثقة رقمية دون منظومة حماية متكاملة تشمل البنية، والمعرفة، والإطار القانوني.
كما أن غياب التكامل الرقمي الإقليمي بين الدول العربية يُمثّل عائقًا بنيويًا أمام الاستفادة من الاقتصاد الرقمي كأداة للتكامل العربي الحقيقي، إذ لا يمكن لأي دولة، مهما بلغت إمكانياتها، أن تؤسس لنظام رقمي تنافسي في عزلة. فالمطلوب هو بناء أسواق رقمية عربية مترابطة، تعتمد على تقنيات متوافقة، وتشريعات منسّقة، واستراتيجيات متكاملة في الأمن السيبراني وحوكمة البيانات.
في المقابل، لا بد من الاعتراف بأن الرأسمال البشري هو المحرّك الحقيقي لهذا التحول. فالمعركة في جوهرها تدور حول من يمتلك عقولًا قادرة على التفكير الرقمي، والتفاعل مع الذكاء الاصطناعي، وابتكار حلول تتجاوز التقليد. وإذا لم تتجه السياسات التعليمية إلى تبنّي مناهج جديدة قائمة على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والعمل التعاوني، فإن أي استثمار في البنية التحتية الرقمية سيبقى عاجزًا عن توليد القيمة المستهدفة.
هذا الانتقال أعلى من كونه تقنياً، بل يمثل تحولًا حضاريًا يتطلب إعادة تعريف دور الدولة، وتمكين الفرد، وتخطيط المدن، وتنظيم السوق. إنه تحول في فلسفة الاقتصاد نفسه: من اقتصاد الموارد إلى اقتصاد المعرفة؛ ومن الصناعات الثقيلة إلى المنصات الذكية؛ ومن الاحتكار إلى المشاركة الواسعة في إنتاج وتوزيع القيمة.
وفي هذا السياق، لم تعد العولمة الرقمية مجرد موجة جديدة، بل معيارًا جديدًا يُقاس به تطور الأمم. وكلما طال تردد العالم العربي، اتسعت الفجوة بينه وبين القوى الفاعلة في النظام الدولي الجديد. إن تأخير الدخول في معادلة الابتكار ليس خسارة لحصة سوقية، بل تخلف عن شروط التاريخ نفسه.
ما هو مطلوب الآن ليس اللحاق بالركب، بل الشجاعة في رسم مسار مستقل، يستند إلى خصوصية المنطقة، ويستفيد من طاقاتها الكامنة، ويُبنى على نموذج تنموي يُراهن على الإنسان بوصفه أداة التغيير وهدفه.