القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
يعيش الاقتصاد العربي اليوم في قلب لحظة مفصلية، تتقاطع فيها أزمات متلاحقة مع تحولات بنيوية تضرب جذور النظام العالمي. لم تعد المسألة محصورة في تقلبات ظرفية كسعر النفط أو التضخم، بل باتت مرتبطة بإعادة تعريف لموقع الدول العربية ضمن المعادلة الاقتصادية الدولية. ما نشهده اليوم لا يُعبّر فقط عن تقلبات اقتصادية آنية، بل عن تحول جيو-اقتصادي عميق يُعيد رسم الحدود بين المركز والهامش، وبين المنتج والمستهلك، وبين من يملك القرار ومن يُقيَّد بإملاءاته.
لقد أصبحت منظومة الاقتصاد العالمي أكثر تشظيًا، وأكثر ارتهانًا للاعتبارات السياسية والأمنية على حساب منطق الأسواق. وفي خضم هذا الانزياح العالمي، تجد الدول العربية نفسها أمام اختبار مزدوج يتمثل في الحفاظ على استقرارها الداخلي، وفي الوقت نفسه إعادة تحديد موقعها ضمن بنية اقتصادية دولية تتسم بعدم اليقين المتزايد. وهذا التحدي لا يدور في فضاء التنظير المجرد، بل يتجسد كمعضلة استراتيجية في عمق الحسابات الوطنية، ويشكل المحكّ الحقيقي لصنّاع القرار في المرحلة المقبلة.
في هذا السياق، يظهر الاقتصاد العربي في حالة من التفاوت البنيوي. فبعض دوله قطعت أشواطًا في تنويع مصادر دخلها وتطوير قطاعاتها الإنتاجية، بينما لا تزال أخرى أسيرة لعوائد النفط، ترتهن في تخطيطها الاقتصادي لتقلبات سوق الطاقة وارتباطاتها الجيوسياسية. وقد فرضت الأزمة الأوكرانية، وتبعات جائحة كوفيد-19، إضافة إلى موجة التضخم العالمية وتقييد السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى، واقعًا جديدًا لم تعد فيه الحلول التقليدية صالحة، ولا الإصلاحات المجتزأة قادرة على احتواء المخاطر.
إن أحد أبرز مصادر الهشاشة في البنية الاقتصادية العربية يتمثل في الاعتماد المفرط على الواردات الغذائية. وقد كشفت أزمة سلاسل التوريد منذ 2022 هشاشة الأمن الغذائي العربي، وضرورة التفكير في نماذج إنتاجية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الأمن الاستراتيجي، لا فقط كفاءة الاستيراد. كذلك، فإن ارتفاع معدلات الدين العام في عدد من الدول العربية، وسط ضغوط اجتماعية حادة، يحدّ من القدرة على المناورة المالية، ويُقيد خيارات الحكومات في مجالات الدعم والاستثمار الإنتاجي.
ويضاف إلى ذلك تحدي البطالة البنيوية، خصوصًا بين فئة الشباب، وهو ما يهدد الاستقرار الاجتماعي ويُضعف مناعة المجتمعات في مواجهة الأزمات. وفي ظل تسارع التحولات الرقمية وتغير طبيعة الوظائف عالمياً، أصبح من الضروري إعادة صياغة السياسات التعليمية والتدريبية، بما يستجيب للطلب المتغير على المهارات، ويُهيئ القوى العاملة للمنافسة في اقتصاد المستقبل.
رغم هذه التحديات المتشابكة، لا يزال هناك مجال واسع للمناورة إن أحسنت الدول العربية قراءة المرحلة. فمن جهة، تمتلك المنطقة موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا يجعلها صلة وصل حيوية في شبكات التجارة العالمية. كما تملك موارد طبيعية متجددة يمكن أن تُشكل نقطة انطلاق لنموذج اقتصادي أكثر استدامة. فالطاقة الشمسية وطاقة الرياح لم تعد مجرد بدائل للطاقة التقليدية، بل باتت مشاريع ذات بعد سيادي، تُمكّن الدول من بناء استقلال في مصادر الطاقة يعيد تعريف علاقاتها بالأسواق العالمية.
وفي الوقت نفسه، يمكن للاقتصاد الرقمي أن يُشكّل أداة حقيقية لإعادة تموضع الاقتصادات العربية ضمن سلسلة القيمة العالمية. إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية، فإن التكنولوجيا قادرة على فتح آفاق جديدة في ميادين التجارة، والصناعة، والخدمات، شرط أن يُعاد توجيه السياسات العامة نحو تمكين الابتكار، وخلق بنية تحتية ذكية، وتشجيع ريادة الأعمال.
من ناحية أخرى، فإن تطوير قطاعات مثل السياحة، والصناعات التحويلية، والتعليم، والرعاية الصحية، لم يعد مجرد خيار اقتصادي، بل ضرورة لضمان بقاء الدول العربية على الخريطة التنموية. وهذه القطاعات، بما تملكه من قدرة على توليد الوظائف وزيادة القيمة الاقتصادية، يمكن أن تكون قاعدة انطلاق لنموذج تنموي جديد، يراعي الخصوصية المحلية، ويستند في الوقت نفسه إلى قواعد الكفاءة والتنافسية.
غير أن هذا التحول المنشود لا يمكن أن يُبنى على أساس وطني صرف، بل يتطلب تعاوناً إقليمياً حقيقياً يتجاوز الشعارات، ويُؤسس لسوق عربية مرنة، قادرة على امتصاص الصدمات، وتوليد فرص نمو عابرة للحدود. لا يمكن لأي اقتصاد عربي، مهما كانت قدراته، أن ينجو منفردًا في هذا العالم المتشظي. لذلك، فإن بناء شبكات تكامل إنتاجي واستثماري وتجاري داخل الإقليم العربي بات أولوية استراتيجية لا تحتمل التأجيل.
وفي هذا المشهد المعقّد، تظل الرؤية الاستراتيجية هي مفتاح الصمود والتحول. فالدول التي تملك القدرة على قراءة الاتجاهات الكبرى في الاقتصاد العالمي، وتستجيب لها عبر سياسات ذكية ومرنة، هي وحدها من ستنجح في تأمين استقرارها، وتوسيع هامش استقلالها الاقتصادي، وصياغة مستقبلها وفقًا لشروطها، لا شروط الآخرين.
كما أنه ربما يكون الاقتصاد العربي أمام لحظة تُشبه في دقتها وعمقها لحظات التأسيس الكبرى. فإما أن تستمر أنظمته الاقتصادية في الدوران داخل حلقة رد الفعل والتأخر الهيكلي، أو أن تنتقل إلى طور الفعل الاستراتيجي المُؤسِس، القادر على توليد نموذج تنموي يستجيب للتحولات، ويتجاوزها نحو إعادة تعريف موقع المنطقة العربية في الاقتصاد العالمي لا بوصفها تابعة، بل كقوة مشاركة في صنع المعنى والتوجه. والسؤال المطروح هنا ليس فقط: كيف نتجنب الانهيار؟ بل: كيف نُعيد بناء المستقبل من نقطة التحوّل ذاتها؟