التحول العربي نحو الطاقة المتجددة كمعركة جيوسياسية 1-2

مدة القراءة 3 دقائق

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

في سياق التحولات الجيوسياسية المتسارعة وتفاقم أزمات المناخ، لم يعد التحول إلى الطاقة المتجددة مجرد شعار تنموي في المنطقة العربية، بل غدا خيارًا استراتيجيًا حتميًا، تمليه اعتبارات اقتصادية وبيئية وأمنية تتقاطع عند نقطة جوهرية تتمثل في إعادة تعريف مصادر القوة في القرن الحادي والعشرين.

الدول العربية، ورغم تفاوت قدراتها الاقتصادية والسياسية، بدأت تدرك تدريجيًا أن صياغة مستقبلها في قطاع الطاقة لا يمكن أن تقوم على المبادرات القُطرية المنعزلة، بل تستلزم بناء تكامل إقليمي راسخ يعيد تشكيل أسس التعاون العربي، بعيدًا عن المقاربات التقليدية التي ظلت حبيسة الشعارات، باتجاه منظومات مترابطة في الإنتاج والتوزيع والتمويل ونقل التكنولوجيا.

ما يميز المرحلة الراهنة ليس فقط تنامي الوعي بالتحول نحو الطاقة النظيفة، بل صعود مقاربة براغماتية أكثر نضجًا ترى في مشاريع الطاقة المتجددة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصادات، وتمتين الحضور العربي في السوق العالمية للطاقة البديلة، واستثمار موقع المنطقة الجغرافي والشمسي والرياحي الفريد لتصبح منصّة تصدير عالمية للهيدروجين الأخضر والطاقة النظيفة.

التعاون العربي في هذا المسار لا يمكن أن يُختزل في تبادل المعلومات أو الشراكات الرمزية. ما تحتاجه المنطقة هو بناء منظومة تشاركية ذات بنية مؤسسية قوية، تنطلق من إنشاء شبكات ربط كهربائي عابرة للحدود، ومراكز بحث وتطوير مشتركة، واتفاقات إنتاج وتصدير، وصيغ تمويل سيادية ومشتركة قادرة على تقليل المخاطر الاستثمارية وفتح المجال أمام تدفقات رأس المال الخارجي. هذا المسار، إذا ما تم بناؤه برؤية استراتيجية، يمكن أن يضع الأساس لتحول تاريخي في مفهوم “أمن الطاقة العربي”، من حالة التبعية للتقلبات النفطية إلى موقع الصانع والمصدر للابتكار الأخضر.

في قلب هذا التحول تقف دولة الإمارات العربية المتحدة، التي قدمت نموذجًا متقدمًا في المزج بين الرؤية الاستباقية والتمويل الذكي. فقد استثمرت ما يتجاوز 40 مليار دولار في مشاريع الطاقة النظيفة حول العالم، وتمكنت من بناء أول مصنع للألمنيوم الأخضر، كما وضعت خطة طموحة لإنتاج مليون طن من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2030، ليجعلها من بين الدول القليلة عالميًا التي لا تكتفي بالاستهلاك المحلي، بل تسعى لتصبح منصة تصدير إستراتيجية لأوروبا وآسيا.

أما المملكة العربية السعودية، فقد انتقلت خلال السنوات الخمس الأخيرة من موقع المنتج الأحفوري إلى مُصمّم لمنظومة طاقة هجينة تنظر إلى المستقبل. الاستثمار في المعادن النادرة، وتوطين الصناعات المرتبطة بالبطاريات والطاقة الشمسية، وقيادة مشاريع الهيدروجين الأزرق والأخضر، كلها خطوات تُرسي توجهًا استراتيجيًا يهدف إلى إعادة تموضع المملكة كمركز حيوي في النظام الطاقي العالمي.

وبحسب الخطط المعلنة، تستهدف المملكة العربية السعودية أن تُشكل مصادر الطاقة المتجددة نصف مزيج الطاقة الوطني بحلول عام 2030، وهو هدف طموح يستدعي إعادة هيكلة شاملة لمنظومة الإنتاج، بما في ذلك رفع القدرة الإنتاجية الحالية بأكثر من عشرين ضعفًا، وتطوير البنية التحتية والقدرات التقنية بشكل متزامن. هذا الطموح يضع المملكة أمام معادلة استراتيجية دقيقة، تتطلب تسارعًا تقنيًا مدروسًا، وتخطيطًا ماليًا طويل الأجل، وبناء شبكات إمداد مستقرة وقابلة للتوسع ضمن إطار حوكمة مرن وقادر على مواكبة تحولات السوق العالمية.

وللحديث بقية

مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي بجامعة الدول العربية وعضو المكتب التنفيذي للاتحادات النوعية في الجامعة العربية.