القاهرة
المصدر: جريدة الوفد
أ.د. علي محمد الخوري
في منعطف تاريخي بالغ الدقة، يعاد رسم الجغرافيا الاقتصادية العالمية عبر سباق محموم على تأسيس ممرات اقتصادية جديدة، لا تُقاس أهميتها بقدرتها على تسريع حركة البضائع، بقدر ما تُقاس بقدرتها على إعادة توزيع النفوذ، وتشكيل النظام العالمي الجديد. من آسيا الوسطى إلى ضفاف المتوسط، ومن الموانئ الهندية إلى سواحل أوروبا، باتت الممرات الاقتصادية أدوات لإعادة هيكلة الاقتصاد السياسي العالمي، أكثر من كونها مجرد مشاريع بنية تحتية.
لا يمكن فهم هذه الظاهرة بمعزل عن الانزياح الجاري من مركزية العولمة الغربية نحو تعددية أقطاب تجارية، تتداخل فيها الحسابات الجيوسياسية مع منطق الأسواق. فالمبادرات الكبرى مثل “الحزام والطريق” و”الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي” ليست مشاريع تنموية فقط، بل تعبير مكثف عن الطموح الجيوسياسي للدول الصاعدة، وسعيها لتأطير طرق التجارة وفق مصالحها السيادية. إن صعود هذه المشاريع يعكس تحوّلاً بنيويًا في فهم الاقتصاد العالمي، حيث لم تعد الممرات تُصمَّم فقط لنقل السلع، بل لإعادة هندسة السُلطة.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة اتفاقية الممر الاقتصادي الهندي–الشرق أوسطي–الأوروبي بين الهند والإمارات في فبراير 2024 كمجرد اتفاق اقتصادي، بل كجزء من مشهد استراتيجي أكثر اتساعًا. الهند، التي بلغ حجم تبادلها التجاري مع الدول العربية 240 مليار دولار في 2023، تسعى إلى تسريع انسياب تجارتها، وتوسيع نطاق نفوذها في محيطها الجغرافي الأكبر. غير أن هذا الممر يواجه تحديات جيوسياسية حادة، لا سيما في ظل التوترات في البحر الأحمر وتداعيات النزاع في غزة، التي تهدد استقرار الطرق البحرية وتضعف قابلية الاعتماد على هذا الممر كمحور ثابت في منظومة التجارة العالمية.
هذا المشهد لا ينفصل عن موقع العالم العربي، الذي يتحول تدريجيًا من مجرد معبر جيو-اقتصادي إلى ساحة تنافس استراتيجي مفتوح. الموقع الجغرافي العربي، الممتد من ضفاف المتوسط إلى القرن الأفريقي، لم يعد مجرد معطى جغرافي، بل أصبح ورقة تفاوض سيادي، تحتاج الدول العربية إلى قراءتها من منظور جديد. فالممرات العابرة لحدودها لا تشكل فرصًا لوجستية فقط، بل تحديات على مستوى القرار السيادي والمكانة الدولية.
من هنا، تبرز فكرة التكامل الاقتصادي العربي لا كمجرد أداة للتنمية، بل كضرورة وجودية للدخول إلى المشهد الدولي من موقع الفاعل، لا المتلقي. إن غياب هذا التكامل يُضعف من القدرة التفاوضية للدول العربية، ويفتح المجال أمام القوى الكبرى لإعادة هندسة الممرات الاقتصادية بما يخدم مصالحها الأحادية. المطلوب ليس فقط تنسيقًا تجاريًا، بل بناء استراتيجية إقليمية تستند إلى تصور مشترك لموقع العرب في العالم الجديد.
ما تحتاجه المنطقة اليوم هو تجاوز النموذج التقليدي للتكامل، الذي طالما اصطدم بالتناقضات السياسية وبُنى المصالح الضيقة. المطلوب نهج يتبنى منطق “الاندماج الوظيفي” كما طرحه السياسي الفرنسي روبرت شومان، أحد المؤسسين لفكرة الوحدة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يبدأ التكامل في قطاعات محددة (كالنقل والطاقة) ويمتد تدريجيًا إلى مستويات أعمق من التناسق الاقتصادي والسياسي. وضمن هذا التصور، تتحول الممرات إلى مساحات تكاملية، لا خطوط عبور للمصالح الوطنية.
في الحقيقة، تمتلك الدول العربية من المقومات ما يؤهلها لأن تتحول من دورها الهامشي في خارطة التجارة العالمية إلى مركزها. فإلى جانب الموقع الجغرافي، هناك احتياطيات ضخمة من الطاقة، وسوق استهلاكي واعد، وقوى عاملة فتية يمكن توظيفها ضمن استراتيجيات تصنيع إقليمي مشترك. غير أن هذه المقومات تظل رهينة لغياب الإرادة السياسية العابرة للحدود، وللشعور الجمعي بأن المصير الاقتصادي لا يُصاغ قطريًا بل جماعيًا.
في هذا السياق، تلعب مصر دورًا محوريًا لا بوصفها معبرًا بحريًا لقناة السويس، بل كقاطرة محتملة لمشروع تكاملي عربي، قادر على إعادة تعريف العلاقة مع القوى الدولية. فموقع مصر الجيو-استراتيجي، وتاريخها في التفاعل مع النظام الدولي، يمنحها إمكانية المساهمة في صياغة رؤية مشتركة لتوجيه تدفقات التجارة والاستثمار في الإقليم.
ويبقى السؤال الجوهري إن كانت الدول العربية تمتلك الشجاعة الكافية للانتقال من التكيّف مع الممرات التي يرسمها الآخرون إلى القدرة على بناء مساراتها الاقتصادية الخاصة. فالإجابة لا تكمن في الإجراءات التقنية بقدر ما تتطلب انقلابًا مفاهيميًا في فهم الجغرافيا، بحيث لا تُرى كمعبر مفروض بحكم الجغرافيا، بل كأداة تفاوض وسيادة. فكما تُرسم الطرق على الخرائط بقرارات هندسية، يُرسم النفوذ السياسي عبر إرادة واعية ومشروع إقليمي مستقل.
في زمن تتزاحم فيه القوى على توجيه مسارات التجارة لا من خلال السيطرة على الأرض وحدها، بل عبر التأثير في أنماط التفكير الاقتصاد
ي وشبكات القرار العالمية، لم يعد كافيًا أن تظل المنطقة العربية مجرد نقطة عبور في خرائط الآخرين. ما هو مطلوب اليوم ليس التماهي مع استراتيجيات خارجية جاهزة، بل المشاركة الفعلية في صياغة تصورات جديدة لمفهوم الطريق ذاته. فالموقع الجغرافي، مهما بلغت أهميته، يفقد وزنه إن لم يُرفد بمسار مستقل الإرادة، مدفوع برؤية اقتصادية واعية وشبكة مصالح تنبع من الداخل لا تُفرض من الخارج. القوة الحقيقية لم تعد تُقاس فقط بما تمثله الأرض من موقع، بل بما يُرسم عليها من مسارات ذات سيادة، تُعبّر عن طموح جماعي، وتُعيد للمنطقة صوتها في تشكيل النظام الاقتصادي العالمي القادم.