صعود الجغرافيا النقدية

مدة القراءة 6 دقائق

القاهرة

المصدر: جريدة الوفد

أ.د. علي محمد الخوري

 

لم يعد النظام النقدي العالمي يُدار وفق منطق الأحادية الذي ساد عقب الحرب الباردة. فالدولار، الذي كان لعقود مركز الثقل في توازنات الأسواق والاحتياطات، يواجه اليوم ملامح تفكك هادئة تُنذر بتحول في بنية السلطة المالية الدولية.

ما يحدث اليوم هو تحوّل بطيء لكنه عميق، تقوده قوى صاعدة تسعى إلى إعادة تعريف الأسس التي قامت عليها موازين النفوذ النقدي منذ اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944، حين اجتمعت القوى الغربية لترسيخ مركزية الدولار وربط العملات العالمية به، معلنة بذلك ولادة حقبة من الهيمنة النقدية الأميركية.
وفي قلب هذا التحوّل تقف الصين، وهي تُعيد بهدوء تشكيل أدواتها المالية الخارجية، في محاولة لا تخلو من طموح جيو-اقتصادي لتقويض تفوق الدولار من جهة، وبناء دعائم لنظام نقدي بديل أكثر تماثلًا مع خارطة القوى الجديدة.

منذ أواخر عام 2022، بدأت الصين في تنفيذ سلسلة من الإجراءات المنهجية لتقليص اعتمادها على العملة الأمريكية، متبنيةً مقاربة تقوم على التحوط طويل الأجل من مخاطر النظام المالي المتمركز حول واشنطن. لم تبقِ الصين خياراتها في إطار المجاز السياسي، بل شرعت في خطوات عملية، تجلت بشكل واضح في التوسع المدروس في احتياطي الذهب، بوصفه أصلًا استراتيجيًا.

وفقًا لتقرير مجلس الذهب العالمي، بلغ حجم احتياطي الصين من الذهب حتى مارس 2025 ما مجموعه 2,292 طنًا، وهو ما يعادل نحو 6.5% من إجمالي احتياطياتها من النقد الأجنبي. هذه الزيادة المطّردة في الاحتياطيات وإن كانت تبدو مجرد إجراء تكتيكي لحماية الاقتصاد المحلي من التقلبات، إلا أنها تمثل خطوة استراتيجية داخل مشروع أوسع، يستهدف إعادة موضعة اليوان في المشهد النقدي العالمي.

تراهن بكين على أن امتلاك أصول صلبة من الذهب سيمنح عملتها الوطنية مزيدًا من الثقة في التبادلات الدولية، لا سيما في سياق تآكل المصداقية التدريجية للدولار كعملة احتياط، بعد سنوات من التوسع النقدي الأميركي، والعقوبات الاقتصادية التي أظهرت هشاشة الاعتماد الأحادي على الدولار في الأزمات. وتتماهى هذه المقاربة مع فلسفة طويلة الأمد داخل الفكر الاقتصادي الصيني، تقوم على مبدأ فك الارتباط التدريجي مع المراكز النقدية التقليدية، دون كسر مباشر لقواعد النظام، بل من خلال تآكل هادئ ومستمر.

وفي موازاة هذه الخطوات، تسعى بكين إلى توسيع نطاق استخدام اليوان في التجارة الدولية، من خلال عقد اتفاقيات مبادلة عملات مع عدة دول آسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية، في محاولة لتأسيس شبكة مدفوعات بديلة عن شبكة “سويفت”، التي تمثل أحد أهم أدوات الهيمنة المالية الغربية. كما بدأت الصين، وبحذر محسوب، في تقليص حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية، وهي عملية بالغة الحساسية نظرًا لما تحمله من تداعيات على القيمة السوقية للدولار ذاته، وعلى استقرار الاحتياطيات الصينية.

إلا أن بكين تدرك، على نحو استراتيجي، أن الانفصال التام عن الدولار ليس خيارًا متاحًا في المدى القريب، إذ أن عمق التشابك الاقتصادي العالمي، وتداخل الاستثمارات عبر الحدود، يحول دون تبني سياسات راديكالية قد تضر بالاقتصاد الصيني أكثر مما تخدمه. لذلك، تبدو خطواتها مدروسة، قائمة على موازنة دقيقة بين الرغبة في إعادة تموضع نقدي عالمي، والحذر من زعزعة النظام المالي القائم بصورة قد تُفجّر ردود فعل معاكسة.

ورغم أن الاحتياطيات الذهبية لا تزال تشكل نسبة محدودة من إجمالي الأصول الصينية، فإن الرسالة الرمزية التي تبعث بها بكين إلى العالم واضحة: هناك نظام نقدي جديد في طور التكوين، وتعددية قطبية بدأت تتبلور في قلب المنظومة المالية الدولية. ولا يخفى أن العديد من البنوك المركزية حول العالم بدأت تسلك نهجًا مشابهًا، ما يفتح الباب لتكوين كتلة نقدية دولية تتبنى مسارات مختلفة عن هيمنة الدولار، في وقت يشهد فيه العالم توترًا متصاعدًا بين قوى عظمى تتنافس على شرعية القيادة المالية والاقتصادية.

في هذا السياق، لا يُمكن تفسير اندفاع الصين نحو الذهب بوصفه مجرد تحرك مالي احترازي، بل يتجلى كخيار سيادي يرمي إلى إعادة ترسيم موقعها ضمن النظام النقدي الدولي. وعلى نحو أوسع، يُمثّل ذلك تجسيداً لما يمكن تسميته بـ”الجغرافيا النقدية”، أي إعادة توزيع النفوذ الجيوسياسي وفقًا لأدوات مالية ومصرفية، لا إلى موازين القوة العسكرية أو التفوّق التكنولوجي وحدها.

وهذه الظاهرة تتقاطع مع تصاعد دور العملات المحلية في المعاملات الثنائية، وعودة الخطاب المرتبط بـ”السيادة النقدية” في خطاب العديد من الدول التي بدأت، هي الأخرى، تتساءل عن الجدوى من التمركز المفرط حول الدولار.

ورغم أن هذا التحول لا يزال في بدايته، إلا أن آثاره التراكمية بدأت تظهر على مستوى الأسواق والخيارات الاستثمارية. فأسعار الذهب تشهد اتجاهاً تصاعدياً مدفوعاً بالطلب الرسمي، لا بالمضاربة التجارية فقط، في حين تواجه أسواق السندات الأميركية ضغوطاً إضافية مع تراجع مشتريات الدول الكبرى، وعلى رأسها الصين.
وفي نهاية المطاف، لا يبدو أن الصين بصدد إحداث انقلاب مباشر في النظام النقدي العالمي، بقدر ما تسعى إلى هندسة واقع جديد، يستند إلى التوازن لا إلى الإقصاء، وإلى التعدد لا إلى التمركز. فاللحظة الراهنة ليست لحظة انهيار، لكنها بالتأكيد لحظة مراجعة جذرية لافتراضات اقتصادية سادت طويلاً.

ويبقى السؤال المفتوح: إذا كانت الصين قادرة على التحرك بهذه الرؤية المتأنية نحو نظام متعدد المحاور، فهل ستبادر القوى الغربية إلى إعادة تعريف دور الدولار بشكل استباقي، أم ستظل محكومة بالطرح الفكري القديم حول التفوق الغربي؟ وهل نحن أمام مرحلة انتقالية تتطلب إدارة دقيقة للصراع النقدي، أم أننا نشهد بداية خريطة مالية جديدة سيُكتب مستقبلها بمداد الذهب؟